راود مونيكا ديسانتيغو دومًا تساؤل ملح: «كيف يمكنها دفع الطلاب لاحترامها؟».
كان ذلك في بداية عامها التدريبي كمدرسة رياضيات في «أكاديمية بيركلي ماينارد»، وهي مدرسة تقع بالجزء الشرقي من سان فرانسيسكو. وقد نمى لمسامع ديسانتيغو، 23 عامًا، ذات الجسم النحيل والصوت الرقيق أن الفصل الذي ستتولى مسؤوليته من طلاب الفرقة السادسة مشاكسون للغاية.
ووقفت تراقب بدقة باميلا سابرتون، وهي مدرسة تملك 7 سنوات من الخبرة في العمل بالمدارس العامة بالمدينة وهي المنوط بها الإشراف على ديسانتيغو خلال عام التدريب، أثناء دخولها الفصل. ولاحظت ديسانتيغو أن سابرتون نادرا ما كنت ترفع نبرة صوتها، وإنما حافظت على نبرة ثابتة أثناء حديثها للطلاب وسردها لما يفعلونه في تلك اللحظة، مثل «كيون تجلس في هدوء» أو «ريفان تعكف على حل مسائل رياضية».
بالنسبة لديسانتيغو، بدا هذا الأمر غريبًا، لكنها لاحظت أن الطلاب بدأوا في التزام الهدوء وتدوين هواياتهم وأطعمتهم المفضلة.
ومن المقرر أن تتشارك سابرتون على مدار العام المقبل مع ديسانتيغو في العشرات من مثل هذه الاستراتيجيات. تعد ديسانتيغو واحدة من 29 مدرسا محتملا يتقاضون أجرًا زهيدًا هذا العام أثناء مشاركتهم ببرنامج تديره «مدارس أسباير العامة»، وهو نظام يضم مدارس كاليفورنيا وممفيس.
وتكمن الفكرة في أن المدرسين، مثل الأطباء، بحاجة للتدريب المتكرر مع مشرفين متمرسين قبل أن يصبح بمقدورهم تحمل مسؤولية فصول دراسية بمفردهم. داخل «مدارس أسباير العامة» يعتقد المشرفون أن أهم شيء على الإطلاق يحتاج المدرسون المبتدئون لإتقانه هو مهمة قد تبدو مملة، لكنها بالغة التعقيد، وهي السيطرة على فصل مليء بالأطفال. وبمجرد إتقان هذا الأمر، يملك المدرسون القدرة على التفرغ للتركيز على العملية التعليمية ذاتها. يعد نموذج «أسباير» واحدا من عدد من مثل هذه النوعية من البرامج التي بدأت تظهر بمختلف أرجاء البلاد، ويشكل تحولا راديكاليًا عن الأسلوب التقليدي في تدريب المعلمين والمعتمد على الجانب النظري أكثر من العملي.
خلال السنة الدراسية الماضية، دخلت «نيويورك تايمز» للفصول، حيث خاض 3 مدرسين جدد التدريب، وتابعت لحظة بلحظة انكساراتهم ونجاحاتهم.
قبل أن تبدأ الدراسة بشهر، جلست ديسانتيغو في إحدى غرف الاجتماعات مع 9 مدرسين متدربين آخرين لدى مدارس «أسباير». وتحدثت إليهم كريستن غالاغر، مدير برنامج التدريب، قائلة: «ستأتي عليكم أيام تتساءلون فيها: لماذا أفعل ذلك؟ لكن عليكم النهوض من عثرتكم تلك والعودة للفصل، هذا الإصرار هو ما يصنع نجاحكم».
من بين المدرسين المتدربين بيانكا ماريسكال، 22 عامًا، وهي أول فرد من أسرتها يتخرج في الجامعة، وسبق لها ارتياد مدرسة أسباير الابتدائية كتلميذة، والآن ستتولى التدريس بها.
ديفيد نت، 26 عامًا، اتجه للتدريب بعد عام قضاه في التدريس لطلبة فلسطينيين في الصف الرابع بالضفة الغربية. وقد جرى تكليفه بتدريس الأحياء لطلبة الصف العاشر، وتشريح وفسيولوجيا لطلبة الصف الثاني عشر. وعلى الرغم من عدم دراسته مطلقًا للفسيولوجيا من قبل، فإنه رأى في نفسه القدرة على إتقانها. وراودته هذه الثقة لأنه سبق له وأن تعلم العربية واعتاد استخدامها أثناء التدريس.
التحدي الأول الذي واجه نت هو بناء علاقة انسجام مع الطلاب. وفي اليوم الثالث له داخل «أكاديمية أسباير كاليفورنيا كوليدج الإعدادية» في بيركلي، احتذى بالمشرفة عليه، جاي ديفيد، التي تعمل بالتدريس منذ 4 سنوات، حيث وقف على باب الفصل بعد الغداء. وقف نت لتحية الطلاب باليد فردًا فردًا، لكن الكثير من الطلاب المراهقين تجنبوا النظر إليه مباشرة، وفضلوا التسلل لداخل الفصل في هدوء.
تتمتع جاي ديفيد بشعبية كبيرة بين الطلاب، وقد تنازلت عن دورها في التدريس للفصل لصالح نت. في البداية، خطط نت لتقديم درس لمدة 25 دقيقة عن الأساليب المختلفة للتدريس، لكن جاي ديفيد، التي تتولى الإشراف على تدريب المدرسين للعام الثاني، نصحته باختصار الوقت إلى 10 دقائق فقط.
وبعد عرضه مقتطفات من موقع «يوتيوب» من أفلام «رين مان» (رجل المطر)، كمثال على شخص يتعلم بصريًا)، و«كونغ فو باندا»، كمثال على التعلم عن طرق الفعل، و«ماي فير ليدي» (سيدتي الجميلة)، كمثال للتعلم عن طريق السمع، فتح باب المناقشة أمام الطلاب.
إلا أن الكثير من الطلاب التزموا الصمت. وهنا تدخلت جاي ديفيد وهمست لنت بأن عليه الاختيار عشوائيًا من بين قائمة أسماء الطلاب، وهو الأمر الذي بث بعض الحيوية في المناقشة.
جدير بالذكر أن قرابة 200.000 مدرس جديد يستلمون عملهم داخل الفصول سنويًا، بينما الكثيرون منهم ليسوا على استعداد للمهمة التي تنتظرهم. المعروف أنه خلال برامج التدريب التقليدية داخل الجامعات، يقضي المتدربون معظم وقتهم في دراسة نظريات تعليمية. أما المشرفون على التدريب فتتنوع خبراتهم.
الملاحظ أن خريجي جامعات أصغر سنًا وأفرادا راغبين في الانتقال للتدريس من مهن أخرى يدخلون الحقل التعليمي عبر برامج بديلة مثل «درس من أجل أميركا» و«الزملاء المدرسون». ويتلقى هؤلاء قدرا أقل من التدريب العملي.
وتبعًا لتقرير أعده عام 2014 «المجلس الوطني لجودة المدرسين»، وهو منظمة غير هادفة للربح، فإن ما يزيد قليلا عن ثلث برامج إعداد المدرسين تناول أساليب إدارة الفصل.
وعلى الرغم من أن غالبية النقاشات المحتدمة حاليًا حول التعليم تركز على إقرار معايير أكاديمية أعلى وأساليب تقييم المدرسين للطلاب، فإن وزارة التعليم من جانبها تولي اهتمامًا واضحًا بجودة برامج إعداد المدرسين.
وخصصت الوزارة 35 مليون دولار هذا العام في صورة منح لمعاونة الإدارات التعليمية على تطوير برامج جديدة لتدريب المدرسين، مع منح الأولوية لبرامج مثل البرنامج الحالي تنفيذه في «أسباير».
في أسباير، حيث ينتمي غالبية الطلاب لأسر منخفضة الدخل، يقضي المدرسون المتدربون أربعة أيام أسبوعيًا داخل فصل واحد ويعملون بالتعاون مع مشرف منذ أواخر الصيف حتى نهاية العام الدراسي. أما في اليوم الخامس، فيعقدون حلقات دراسية ويعرضون أفلامًا مصورة أثناء ممارستهم للأساليب التعليمية الواردة بالكتب حرفيًا. عند إنجاز البرنامج، ينال المتدربون درجة الماجستير وشهادة في التدريس معتمدة من جامعة محلية.
إلا أن البعض ينتقد مثل هذه البرامج باعتبار أن المشاركين بها لم يتولوا التدريس لفترة كافية تؤهلهم لاكتساب الخبرة الحقيقية، وأن أساليبها تغفل روح عملية التدريس وتحولها لعملية ميكانيكية.
في المقابل، يؤكد القائمون على برنامج «أسباير» أنهم لا يجبرون المتدربين على نموذج ضيق بعينه، وإنما يعطونهم الأدوات، تمامًا مثل الجراح الذي يوضح لطبيب متدرب السبل المثلى لإجراء جراحة ما.
في اليوم الأول لدخولها الفصل بمفردها، شعرت ديسانتيغو بتوتر بالغ. زاد الأمر سوءًا أن الكثير من الطلاب تجاهلوا محاولاتها تهدئتهم. إلا أن ما آلمها أكثر أنها شعرت بأنها خذلت الطلاب الأكثر تعاونًا. وعن ذلك قالت: «شعرت وكأنهم يتطلعون نحوي ويتساءلون: لم أنت غير قادرة على السيطرة على الفصل؟».
في تلك الليلة، دخلت ديسانتيغو في نوبة من البكاء الشديد. كل ما كانت تتمناه هو العمل كمدرسة. الآن، بدأ القلق يساورها حيال قدرتها على ذلك. وهنا تدخلت سابرتون ببعض النصائح العملية. مساء أحد الأيام، قامت بتشغيل موسيقى عبر جهاز الحاسب الشخصي لها، وأعطت ديسانتيغو كتابًا وطلبت منها القراءة بصوت مرتفع يعلو عن صوت الأغنية، ونصحتها أن تتمسك بنبرة حازمة في حديثها داخل الفصل.
داخل «مدرسة إيست بالو ألتو»، تعثرت ماريسكال ذات صباح أثناء كتابتها لدرس على لوحة التدريس بالفصل. وبعد بضع محاولات، مسحت ما كتبته بعدما شعرت بالاضطراب. لدى سماعها هذا الأمر، نصحتها المشرفة عليها، سارة ستينك بورتنوف، بأن تدع الطلاب يرون أن الخطأ جزء لا يتجزأ من عملية التعلم. ولمرة كل أسبوع، كانت بورتنوف تلعب دور الطالب، بينما تشرح ماريسكال مجموعة من الصور والرسوم البيانية.
يذكر أنه داخل المدارس التي ينتمي أعداد كبيرة من طلابها لأسر فقيرة، يواجه كثير من الأطفال مخاطر الوقوع بمشكلات أكاديمية واجتماعية متنوعة لا يتوافر لدى المدرسين المستجدين الخبرة اللازمة للتعامل معها. إلا أنه تبعًا لتحليل صدر عن «إيديوكيشن ترست»، وهو منظمة غير هادفة للربح تعمل على سد الفجوات بمجال الإنجاز، فإن المدرسين الذين ما يزالون في عامهم الأول من المهمة يجري توجيههم لمدارس بها نسب مرتفعة عن الفقر بمعدل يبلغ ضعف معدل تعيينهم في المدارس داخل الأحياء الراقية.
ويميل المدرسون غير المحنكين لترك عملهم سريعًا، مما يخلق دورة مدمرة من الإحلال والتبديل داخل المدارس ذات مستويات الفقر المرتفعة. لذا فإن أحد أهداف برامج التدريب الجديدة إضفاء بعض الكفاءة والخبرة الأساسية على المدرسين المستجدين.
جدير بالذكر أن برنامج «أسباير» التدريبي يدفع لكل مدرس متدرب 13.500 دولار سنويًا، بينما ينفق 15.000 دولار إضافية لتغطية نفقات كل متدرب، بما في ذلك التأمين الصحي وأجور للمدرسين المشرفين.
وطبقًا لمسح أجرته «أربان تيتشر ريدزنسي يونايتد»، تتبعت خلاله مشوار 2.700 خريج من 17 برنامجا تدريبيا بمختلف أرجاء البلاد، فإن 82 في المائة ممن خاضوا هذه البرامج ما يزالون يعملون بالحقل التعليمي بعد مرور 5 سنوات. من ناحيتها، فإنه منذ أن بدأت «أسباير» برنامجها التدريبي منذ 4 سنوات، تولت تدريب 82 مدرسا، ما يزال 73 منهم داخل الحقل التعليمي بالمنطقة ذاتها.
من ناحية أخرى، يناضل المدرسون المشرفون على التدريب طيلة العام الدراسي لتحقيق توازن بين الرغبة في منح المدرسين المتدربين الفرصة الكافية لممارسة التدريس، مع ضمان في الوقت ذاته أن الأخطاء التي يقعون فيها لا تضر الطلاب.
عن ذلك، قالت بورتنوف: «إن الأمر يتعلق بمستقبل هؤلاء الطلاب، ومن الصعب للغاية أن نشاهد إخفاقًا في توصيل أحد الدروس».
اللافت أن الكثير من المدرسين المتدربين كانوا من المتفوقين طيلة حياتهم. لذا يمثل التدريس لهم واحدة من التجارب النادرة التي جابهوا فيها صعوبة للوصول للنجاح.
في هذا الصدد، أوضحت غالاغر، مديرة برنامج التدريب، أنهم «يعملون طوال عطلة الأسبوع ولأوقات متأخرة بالليل ويكرسون الكثير من وقتهم لهذا الأمر. ومع ذلك، فإن النجاح لا يحالفهم دومًا، وهو أمر صعب يجد الكثيرون صعوبة في تفهمه».
من جهته، كان نت قد بدأ في الاشتياق للعمل مع الأطفال الأصغر، وراودته ذكريات عمله بالضفة الغربية. في الوقت ذاته، قررت غالاغر أنه من الصعب للغاية على مدرس غير متمرس إتقان مادة علمية جديدة في الوقت الذي يتعلم فيه المبادئ الأساسية لإدارة الفصل.
وعليه، تقرر في يناير (كانون الثاني) نقله لفصل بالمرحلة الابتدائية في «مونارك أكاديمي» بشمال شرقي أوكلاند. وقد حملت هذه الخطوة بعض المخاطرة لأن المشرفة الجديدة عليه، ريبيكا لي، تملك خبرة عامين فقط بمجال التدريس.
إلا أنه سرعان ما اتضح أن المدرسة الابتدائية أكثر ملاءمة لنت، حيث ألفه الأطفال سريعًا، وكانوا يحرصون على تحيته بود وابتسامة عريضة كل صباح فردًا فردًا.
أثناء أحد الدروس، قدم نت شرحًا للتلاميذ لكيفية إجراء عمليات حسابية باستخدام جدول الضرب، بينما تولت لي تصويره بكاميرا فيديو.
بعد انتهاء اليوم الدراسي، شاهد نت المقاطع المصورة وأدرك من خلالها أنه هيمن على الدرس وكان ينبغي عليه منح الطلاب مزيدا من الوقت كي يستوعبوا القواعد الرياضية بمفردهم. وعمل نت بالتعاون مع لي على وضع خطة لمضاعفة الوقت المخصص لحديث الطلاب. بحلول الربيع، بدا المدرسون المتدربون أكثر ثقة بأنفسهم. وداخل «بيركلي ماينارد»، أشاد الطلاب بتطور أداء ديسانتيغو. مثلا، قال جيرمياه لويس، 11 عامًا، خلال فترة استراحة في الربيع الماضي: «في البداية، بدت خجولة، لكنها تعلمت الآن كيف تبدي الحزم وتحقق ما تريده».
بعد انتهاء التدريب، نجح نت في الحصول على وظيفة مدرس للصف الثالث في «مونارك أكاديمي»، بينما قبلت ماريسكال وظيفة مدرسة في «إيست بالو ألتو». أما ديسانتيغو فتقدمت لوظيفة بإحدى مدارس «أسباير» الأخرى، وطلب منها تقديم حصة تجريبية في «أكاديمية غولدن ستيت كوليدج الإعدادية»، وهي مدرسة للطلاب من الصف السادس حتى الثاني عشر.
أثناء الحصة، طلبت من التلاميذ إخبارها بأسمائهم. وعندما أخبرها أحدهم باسم مستعار، استعادت في ذهنها كل ما تعلمته من سابرتون ونظرت إليه في عينيه مباشرة وقالت بحزم: «أود التعرف على اسمك». حينها، التزم الصبي. أما باقي الحصة فمرت بسلاسة، وحرصت ديسانتيغو خلالها على المزج بين العنصر العملي والتعليمي والعنصر الشخصي، مما جذب انتباه الطلاب.
وبعد أيام قلائل، نالت الوظيفة.
* خدمة نيويورك تايمز.
مدرسون مبتدئون يخوضون اختبار «القدرة على السيطرة» داخل فصول أميركية
يتدربون على إيجاد الحلول.. ويحصلون على الخبرة «عمليا»
مدرسون مبتدئون يخوضون اختبار «القدرة على السيطرة» داخل فصول أميركية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة