عبده جبير: محفوظ.. أنصفته {نوبل} ولم ينصفه النقاد

يستعيد صداقته وحكاياته مع صاحب {أولاد حارتنا} في ذكرى ميلاده الـ103

التمشي كان من طقوس نجيب محفوظ و في الاطار عبده جبير
التمشي كان من طقوس نجيب محفوظ و في الاطار عبده جبير
TT

عبده جبير: محفوظ.. أنصفته {نوبل} ولم ينصفه النقاد

التمشي كان من طقوس نجيب محفوظ و في الاطار عبده جبير
التمشي كان من طقوس نجيب محفوظ و في الاطار عبده جبير

«بفضل كل الخيال»، كما يعبر، جمع الأديب عبده جبير، ابن جيل السبعينات، أقصوصات من حياته كان بطلها أديب نوبل نجيب محفوظ ونشرها في كتاب صدر أخيرا عن دار «آفاق» للنشر والتوزيع، يجسد فيه محفوظ كما لو كان يعيش فيه، بابتسامته العذبة وروحه النقية، بل كشف لنا عبر 186 صفحة عن «محفوظ» الذي لا نعرفه. «الشرق الأوسط» شاركته استعادة هذه القصص في الذكرى الثالثة بعد المائة لميلاد نجيب محفوظ.
ظهر محفوظ في حياة جبير عام 1966، حينما كان طفلا في المرحلة الثانوية يعيش في مدينة أسوان بصعيد مصر، حينما وقعت عيناه على رواية «ثرثرة فوق النيل» منشورة في كتاب بعد نشرها مسلسلة في «الأهرام»، وكان في طريقة لشراء دواء السكر لوالده، لكنه لم يفكر بشيء سوى في رغبته العارمة في اقتناء الرواية بالنقود التي في حوزته فكان منه أن ابتاعها على الفور كالمسحور، وبعد أن هام بين صفحاتها فوجئ بأنه لم يأت بالدواء لوالده، وبعدها ضل طريقه للمنزل، وغلبه النعاس حتى وجدته دورية بوليس، ولما علم والده قاطعه لمدة عام، وبعدها رفض أن يكمل تعليمه بالقاهرة رافضا انسياقه لعالم الأدب؛ مما دفعه للهرب إلى القاهرة، وبها عاش على العدس والفول والجرجير والماء حتى ساءت صحته وأصيب بالسل، لكنه تجاوز المحنة، بينما ظلت القطيعة بينه وبين والده لأكثر من 15 سنة. تلك هي القصة الأولى في الكتاب الذي يضم 11 قصة تروي فصولا من حياة جبير ومحفوظ. يتذكر جبير: «محفوظ قرأ أغلب القصص وحدثني عنها وفوجئ بقصتي مع (ثرثرة فوق النيل)، وأذكر أنه قال مازحا: لو كنت أعرف أن الرواية ديه كانت حتتسبب في خناقة بينك وبين والدك مكنتش كتبتها»، ويضيف: «كل القصص نشرتها في حياته وكل قصة كان لها ظروفها، ونشرت متفرقة في صحف ومجلات، وأغلب مادة هذا الكتاب كانت موجودة في حوزتي منذ فترة طويلة، لكن كنت أمر بمرحلة غريبة بسبب الأحداث المريرة التي كانت مصر تمر بها من قبل 25 يناير (كانون الثاني) بعدة سنوات، فقد فقدت قدرتي على الكتابة بشكل مستمر ويومي، لكن أثناء تصفحي لأرشيفي وجدت أنها تصلح لكتاب، ومع ثورة 30 يونيو أحسست بأن روحي عادت إليّ، واستطعت الجلوس وإعادة النظر في أعمالي التي كانت تحتاج للمسات الأخيرة، وتشجيعا لنفسي بدأت بالكتب التي لم تكن تحتاج لأكثر من مقدمة، ووجدت أمامي 5 كتب كان أولها هو كتاب (نجيب محفوظ)، ولم يكن ينقصه سوى إعادة صياغة القصة الأولى والمقدمة، ودفعت بالكتاب إلى المطبعة بعد 20 يوما».
لكن جبير لم يرو تفاصيل أول لقاء حقيقي بمحفوظ في كتابه، فعاد بذاكرته مع «الشرق الأوسط»: «تعرفت على الوسط الثقافي في القاهرة عام 1969 حينما التقيت بصديقي شاعر العامية الكبير نجيب شهاب الدين، فهو الذي أخذني إلى مقهى إيزافيتش ثم مقهى ريش وهناك تعرفت إلى أمل دنقل، ويحيى الطاهر عبد الله، وبهاء طاهر، ومحمد البساطي، وغالب هلسا، وتعرفت على محفوظ في ندوة يوم الجمعة من خلال جلوسي في ريش في ذلك العام، ومن هناك بدأت أكتب في جريدة (المساء) التي كانت منبرا للأدباء الشباب، وقدمت عبد الرحمن الأبنودي ودنقل والكثيرين، ونشرت أول قصة لي عن طريق كاتب القصة المعروف فاروق منيب، المشرف على الملحق الأدبي بها، في أغسطس (آب) 1969، وكان عنوانها (الأمواج). وبعدها، حينما ذهبت إلى مقهى ريش يوم الجمعة، فوجئت بالجمع المحيط بمحفوظ يتكلم عن هذه القصة، وكان هناك صديقي الراحل إبراهيم عبد العاطي الذي أشار إليّ وقال هذا هو عبده جبير، وإذا بمحفوظ يعبر عن فرحته بها وتحدث عنها بترحاب شديد، وكان معجبا بأجواء القصة الصعيدية واللغة البسيطة التي كتبتها بها، وأذكر جيدا كم كان دمث الخلق، وكلما قرأ لي أو لأي شاب كان يشيد بما يعجبه وما لا يعجبه كان يؤثر الصمت».
لكن جبير كشف لنا كيف كان محفوظ يبدو في لحظات غضبه. في قصته الثانية عن المقالة التي أغضبته ووصف كاتبها «بقلة الأدب»، كان جبير قد قام بمغامرة إصدار مجلة شهرية لعروض الكتب اسمها «كتب عربية»، وقرر أن يكون موضوع غلافها الأول رواية «حضرة المحترم»، وكتب عنها الكاتب سليمان فياض. لم يكن يعلم جبير حينما حمل العدد الأول من مجلته فرحا وتلقاها محفوظ بابتسامة عريضة وشكره، إلا أنه في الأسبوع التالي فوجئ بمحفوظ يتجاهله هو وسلميان فياض، فلم يلق عليهما التحية المعتادة. يقول جبير: «لم تكن مرارتي تتحمل الموقف، فغادرت مقهى الحرية قبل أن تميد الأرض بي، ومشيت إلى بيتي». في اليوم التالي حينما ذهب فياض بنفسه إلى مقهى ريش، وكان الحوار حول المجلة، وحينما تحدث عنها أمسك محفوظ بها موجها الكلام لفياض «دي بقه قلة أدب». لم يقو فياض على الصدمة، وغادر محفوظ الندوة ومنذ ذلك الوقت «تغير محفوظ تجاهي لدرجة أنه قاطعني أكثر من 3 سنوات لم يوجه لي التحية حين يهل على المقهى وأكون جالسا، بل إنه تمادى لدرجة أنه لم يرد على تحيتي حين تجرأت». بعدها لم يذهب جبير مرة أخرى إلى ريش، وانتشر الأمر بين المنتديات الثقافية في القاهرة، و«بقت فضيحة بجلاجل» نشر جبير نص المقالة كاملا عله يعرف سبب غضب محفوظ الذي لم يعرفه حتى الآن.
عادت المياه لمجاريها وجمعتهما مواقف كثيرة بعدها، كان أهمها اللحظات الأولى لفوز محفوظ بنوبل، فيعود بنا ليوم الخميس 16 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1988، حينما هاتفه مدير تحرير مجلة «سيدتي»، أسامة الغزولي، من لندن يطلب منه ملخصات قصيرة لكل أعمال محفوظ الـ46 خلال 6 ساعات، صدم جبير، فقد ظن أن محفوظ وافته المنية، لكنه فرح بخبر فوزه بنوبل: «أنا حتى الآن لست مستوعبا ما فعلته. لقد أغلقت علي الباب وظللت أكتب في أعمال محفوظ»، لكنه قدم في كتابه وثيقة رائعة بعنوان «الدليل الكامل لأعمال نجيب محفوظ» تضم حصيلة ما كتبه عن صاحب جائزة نوبل، يقول: «كنت وقتها في منزلي وهو يوم عطلتنا في مجلة المصور، لكن رئيس تحريرها آنذاك، مكرم محمد أحمد، طلب مني الذهاب فورا لمنزل محفوظ، ويروي تفاصيل وصول جحافل الصحافيين والمصورين على الشقة الصغيرة، وبدأ كل منهم يأخذ دورا مساعدا، فقام جبير بالرد على الهاتف وتلقى التهاني، وما قاله محفوظ ليحيى حقي: «الحقيقة أنك تستحقها أكثر مني». ووزع جبير المهمات على الصحافيات لمساعدة السيدة عطية الله إبراهيم، زوجته، وقد أعياها التعب: «كنا جميعا نحس بأن هذا بيتنا، وأننا أبناء الرجل الكبير الذي انتزع لنا جائزة نوبل من فم أسد العالم».
وحول طقوس الكتابة الروائية لدى محفوظ، يقول جبير: «كان قليل الإفصاح عن طقوس أعماله، لكن كلنا كنا نعرف أغلبها. كنا نعلم أنه كان يستيقظ مبكرا، ويذهب للتمشي ويشتري الجرائد ويجلس إلى المقهى ثم يسير من العجوزة حتى جريدة (الأهرام) ويلتقي بالناس ثم يعود لبيته للغذاء والنوم ثم يجلس للكتابة، لكن أهم مبادئه هي أنه كان له نظام صارم، كان يقسو على نفسه حتى يستطيع أن يحافظ على وظيفته الحكومية، لأن الأدب لم يكن يكفل له حياة كريمة».
ويكشف جبير أيضا كيف كان محفوظ «يجور» على رواياته من أجل السينما، لأن «السينما فن آخر غير الرواية، لذا فإنني أعطي الحرية الكاملة للسيناريست والمخرج، ليفعلا ما يشاءان بروايتي». ويكشف لنا أيضا كيف كان يستغل عائد عمله ككاتب سيناريو في الإنفاق على الأدب وكيف دفع من دمه وأعصابه، وأنه لم يكن مرتاحا في التعامل مع السينمائيين، لكنه لم يكن يفرض شروطا في التعامل مع المنتجين والمخرجين.
ويروي جبير قصة نقل أعمال نجيب محفوظ إلى اللغات العالمية وكيف بدأت ومن هو البطل المجهول لكثير من القراء الذي كان وراء ذلك؟ إنه جونسون ديفيز أول من ترجم أعمال محفوظ للإنجليزية في الأربعينات في مجلته «أصوات» التي أصدرها في إنجلترا عام 1960. وقد عانى هذا الرجل كثيرا في سعيه لوضع الأدب العربي على الساحة العالمية، وهو الرجل الذي ارتبط بجبير بعلاقة وطيدة لا تزال قائمة حتى الآن، فهو يقطن إلى جواره في قرية تونس بالفيوم؛ حيث يعيشان على أطلال ذكريات رائعة مع محفوظ. وترجم ديفيز لجبير عدة أعمال كما كتب عنه في سيرته الذاتية المنشورة بالإنجليزية.
ولعل الفصل الأكثر إثارة الذي يرويه جبير من حياة محفوظ هو كيف كان عاثر الحظ فيما يتعلق بالأمور المادية، ويروي قصة المرأة الفرنسية التي «لطشت نصيبه من فلوس جائزة نوبل»، وكان ذلك في عام 1987، إذ احتالت على محفوظ باسم جمعية أدبية وهمية في باريس بحجة نشر أعماله بالفرنسية، لكنها لم تقم بنشر أي شيء، وحينما وقع مع الجامعة الأميركية طالبته بتعويض مادي كان يعادل 80 ألف دولار قيمة نصيبه من الجائزة بعد أن فرقه على أسرته. ويروي كيف نصبت على عدد من أدباء مصر، ومنهم إبراهيم أصلان، وهو شخصيا؛ حيث أقنعتهم بالانضمام لعضوية تلك الجمعية ودفعوا الاشتراكات بالدولار.
القيمة الكبيرة التي يمثلها محفوظ لدى جبير دفعته لأن يبدأ في مشروع موسوعة لنجيب محفوظ ليضم فيها كل ما يتعلق بأدبه وحياته وتاريخ القاهرة من خلال أعماله، واضعا نصب عينيه موسوعة «جيمس جويس» التي أعدها الباحث طه محمود طه، وقد تعاون معه المؤرخ عرفه عبده، وكان ذلك بعد فوزه بنوبل. وبالفعل عقد جبير جلسات عمل مع محفوظ في مكتب توفيق الحكيم بـ«الأهرام»، وآنذاك قال محفوظ: «هذا مشروع ضخم المفروض أن تقوم به مؤسسة كبيرة»، حاول جبير أن يبحث عن منحة تساعده على إنجاز الموسوعة التي تحمل الكثير من نفقاتها، إلا أنه لم يحصل عليها ولم تدعمه وزارة الثقافة في ذلك الوقت وتوقف المشروع.
وحول نيته في استكماله الآن، قال: «بالطبع أرغب في خروج الموسوعة إلى النور، لكن لم يعد لدي الطاقة أو الوقت لها نتيجة أنني أعمل على الانتهاء من عدد من النصوص، لكن لا مانع لدي أن أقدم المادة التي لدي لأي فرد أو مؤسسة لكي تكون مرجعا معتمدا، لأن هناك تواريخ ومفاهيم مختلف عليها في حياة محفوظ، أريدها موسوعة علمية متقنة ويراجعها أدباء ونقاد وباحثون، لكي تكون مرجعا عن محفوظ، لأنه إلى الآن العمل الوحيد الذي أراه قدم نقدا حقيقيا لأعمال نجيب محفوظ هو كتاب إبراهيم فتحي (العالم الروائي عند نجيب محفوظ) الذي تناول المرحلة الأولى من أعمال نجيب محفوظ تناولا عميقا جدا، لكن لا يزال محفوظ مظلوما في النقد والدراسة التي يجب أن تحصل عليها أعماله. وعموما، لا يوجد كتاب جيد عن فن الرواية في العالم العربي، النقد لدينا أغلبه كتابة أكاديمية مدرسية ليس لها مذاق، أو مجرد كتابة صحافية».
ورغم عشق جبير لأعمال محفوظ، فإنه انضم إلى مدرسة أدبية مغايرة وهو ما نجده في أعماله، مثل: «فارس على حصان من خشب»، و«تحريك القلب»، و«سبيل الشخص»، و«عطلة رضوان»، و«رجل العواطف يمشي على الحافة»: «تأثرت بكثير من الكتاب، لكن تأثير محفوظ لم يكن في تجاربي الأدبية، هو كلاسيكي ورائد من رواد الأدب العربي، وقدم لنا مكتبة نستند إليها، لكني أميل للتجريب، وأنتمي لمدرسة مختلفة تماما».
روى جبير كيف «عمدت الرواية المصرية بالدم حتى سال دم محفوظ شخصيا»، وذلك عن حكاية رواها له محفوظ حول ردود الفعل التي صاحبت نشر رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل التي أثارت خناقة بين «طلبة الأزهر» والأفندية واستعملت فيها «النبابيت» وسقط فيها عدد لا بأس به من الشباب المحب للأدب، وكيف كان الاعتراض على وصف رجل لعيني وقوام لفتاة.. إلخ. يقول جبير: «لقد كان سعيدا حينما علم أنني كتبت ما رواه لي حول رواية (زينب) لكنه لم يكن يعلم وهو يروي تعميد الرواية العربية بالدماء أن دماءه هو شخصيا سوف تسيل بسبب رواية (أولاد حارتنا) بسبب تقرير كتبه أحد الفقهاء».
لمقاهي وسط القاهرة مكانة خاصة لدى جبير، وكان المكوث فيها بغرض التعلم وثقل موهبته والتعرف على كل ما هو جديد في عالم الثقافة والأدب والفن، لكنها الآن لم تعد كما عهدها، أصبحت مكانا لـ«خرتية الأدب» الذين يستغلون الأدباء الكبار ويحاولون التطفل عليهم، وتحولت كما يراها «جلسات نميمة»، لذا قام بمقاطعتها، فسألته أثناء مكوثك إبان الثورة المصرية في وسط القاهرة؛ حيث أطلال ذكرياتك مع محفوظ، كيف كان سيرى الأوضاع التي آلت إليها مصر مع حكم الإخوان وموجة التشدد والدماء التي سالت «أظنه كان سيكون مذهولا كما أصابني الذهول، وأصاب كثيرا من الأدباء والمواطنين العاديين، لكنه كان سيكتب عنها كما لم يكتب من قبل».
جسد جبير الثورة بالخيال وكتب «بائعة الزهور» التي نشرها في (الأهرام) حول فتاة تبيع الزهور في ميدان التحرير أثناء الثورة وتصعد فوق مجمع التحرير وتستخدم تنورتها في أن تكون مظلة تحملها أعلى ميدان التحرير لكي ترمي بالزهور على كل من هم فيه، لكن يعترض جبير على اسم «أدب الثورة» فهو يرى أن الأديب يتأثر كإنسان بالأحداث السياسية، فيكتب ما عايشه، لكن «أدب الثورة».. لم يتشكل بعد «ما يمكن أن يطلق عليه ذلك الاسم، فهناك محاولات ناجحة وفاشلة، لكن هناك فارقا بين الكتابة الأدبية التي تقوم على الموهبة والمشاركة في الحياة العامة». ويضيف: «لدي عدة نصوص طويلة حول الثورة ونشرت أحدها، لكن لفت نظري ما طرحته الثورة من لغة جديدة بين الناس لغة مبنية على فكرة الحيرة والحوار والحقيقة بعكس لغة التسلط والاتجار والتدليس، وكتبت مقالة في مجلة (الرواية) عن اللغة التي طرحتها الثورة، ولدي نص بعنوان (إعلان بورسعيد كعاصمة للخيال) كتبته بعد حادثة استاد بورسعيد وعن مرارة أهلها وأنها مدينة ملهمة للأدباء، كما كتبت نصا حول فكر المتشددين من وحي الثورة (نحن في مرآة الإخواني المتسلف) سوف تصدر قريبا في كتاب».
وعن رؤيته لحالة الأدب والإبداع في مصر والعالم العربي، يقول: «الحراك الاجتماعي الحاصل من قبل الثورة، وأثنائها وبعدها، دفع الكثير من الناس في مصر والعالم العربي إلى اللجوء لشكل الرواية للتعبير عن مشاعرهم وعواطفهم وأفكارهم عن النماذج البشرية التي يعيشونها، وهي موجة عامة حدثت أيضا في فترات تاريخية مختلفة. ففي الستينات عدد كبير من البشر يكتبون القصة القصيرة، لدرجة أن غالب هلسا كتب ساخرا: (لو مشيت في أي شارع من شوارع القاهرة، من الممكن أن تسقط على رأسك قصة قصيرة). لمن في النهاية سينسحب عدد كبير، وتتبلور الصورة أكثر وتضم الكتاب الجادين فقط».
ويؤمن جبير بأن «كثيرا من الكتاب سوف يتراجعون إلى الخلف ويأخذون مكانهم الطبيعي، لأنه في المراحل السابقة في الرواية كان هناك ما يمكن تسميته بالكتابة (البيست سيلر). كان إحسان عبد القدوس يطبع أكثر من محفوظ 10 و15 مرة، ولكن محفوظ ظلت له قيمته الأدبية التي لم تبارح مكانها عبر السنين. لست ضد الروايات السهلة التي تسلي الناس، لكن الرواية في النهاية أدب وقيمة أدبية ومجهود ضخم يكاد يحتاج إلى (الرهبنة)، لكن بعد عدة سنوات سوف تصفو الساحة من الأعمال الرديئة وأعمال المتطفلين على الأدب، وتعود إلى الوضع الطبيعي، لأن الفارق كبير بين الأدب الجاد والأدب المسلي، فالبعض يكتب وعينه على الأفلام وعلى المسلسلات، لكنه أمر صحي يؤكد حيوية المجتمعات التي تبرز فيها هذه الظاهرة».



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.