عبده جبير: محفوظ.. أنصفته {نوبل} ولم ينصفه النقاد

يستعيد صداقته وحكاياته مع صاحب {أولاد حارتنا} في ذكرى ميلاده الـ103

التمشي كان من طقوس نجيب محفوظ و في الاطار عبده جبير
التمشي كان من طقوس نجيب محفوظ و في الاطار عبده جبير
TT

عبده جبير: محفوظ.. أنصفته {نوبل} ولم ينصفه النقاد

التمشي كان من طقوس نجيب محفوظ و في الاطار عبده جبير
التمشي كان من طقوس نجيب محفوظ و في الاطار عبده جبير

«بفضل كل الخيال»، كما يعبر، جمع الأديب عبده جبير، ابن جيل السبعينات، أقصوصات من حياته كان بطلها أديب نوبل نجيب محفوظ ونشرها في كتاب صدر أخيرا عن دار «آفاق» للنشر والتوزيع، يجسد فيه محفوظ كما لو كان يعيش فيه، بابتسامته العذبة وروحه النقية، بل كشف لنا عبر 186 صفحة عن «محفوظ» الذي لا نعرفه. «الشرق الأوسط» شاركته استعادة هذه القصص في الذكرى الثالثة بعد المائة لميلاد نجيب محفوظ.
ظهر محفوظ في حياة جبير عام 1966، حينما كان طفلا في المرحلة الثانوية يعيش في مدينة أسوان بصعيد مصر، حينما وقعت عيناه على رواية «ثرثرة فوق النيل» منشورة في كتاب بعد نشرها مسلسلة في «الأهرام»، وكان في طريقة لشراء دواء السكر لوالده، لكنه لم يفكر بشيء سوى في رغبته العارمة في اقتناء الرواية بالنقود التي في حوزته فكان منه أن ابتاعها على الفور كالمسحور، وبعد أن هام بين صفحاتها فوجئ بأنه لم يأت بالدواء لوالده، وبعدها ضل طريقه للمنزل، وغلبه النعاس حتى وجدته دورية بوليس، ولما علم والده قاطعه لمدة عام، وبعدها رفض أن يكمل تعليمه بالقاهرة رافضا انسياقه لعالم الأدب؛ مما دفعه للهرب إلى القاهرة، وبها عاش على العدس والفول والجرجير والماء حتى ساءت صحته وأصيب بالسل، لكنه تجاوز المحنة، بينما ظلت القطيعة بينه وبين والده لأكثر من 15 سنة. تلك هي القصة الأولى في الكتاب الذي يضم 11 قصة تروي فصولا من حياة جبير ومحفوظ. يتذكر جبير: «محفوظ قرأ أغلب القصص وحدثني عنها وفوجئ بقصتي مع (ثرثرة فوق النيل)، وأذكر أنه قال مازحا: لو كنت أعرف أن الرواية ديه كانت حتتسبب في خناقة بينك وبين والدك مكنتش كتبتها»، ويضيف: «كل القصص نشرتها في حياته وكل قصة كان لها ظروفها، ونشرت متفرقة في صحف ومجلات، وأغلب مادة هذا الكتاب كانت موجودة في حوزتي منذ فترة طويلة، لكن كنت أمر بمرحلة غريبة بسبب الأحداث المريرة التي كانت مصر تمر بها من قبل 25 يناير (كانون الثاني) بعدة سنوات، فقد فقدت قدرتي على الكتابة بشكل مستمر ويومي، لكن أثناء تصفحي لأرشيفي وجدت أنها تصلح لكتاب، ومع ثورة 30 يونيو أحسست بأن روحي عادت إليّ، واستطعت الجلوس وإعادة النظر في أعمالي التي كانت تحتاج للمسات الأخيرة، وتشجيعا لنفسي بدأت بالكتب التي لم تكن تحتاج لأكثر من مقدمة، ووجدت أمامي 5 كتب كان أولها هو كتاب (نجيب محفوظ)، ولم يكن ينقصه سوى إعادة صياغة القصة الأولى والمقدمة، ودفعت بالكتاب إلى المطبعة بعد 20 يوما».
لكن جبير لم يرو تفاصيل أول لقاء حقيقي بمحفوظ في كتابه، فعاد بذاكرته مع «الشرق الأوسط»: «تعرفت على الوسط الثقافي في القاهرة عام 1969 حينما التقيت بصديقي شاعر العامية الكبير نجيب شهاب الدين، فهو الذي أخذني إلى مقهى إيزافيتش ثم مقهى ريش وهناك تعرفت إلى أمل دنقل، ويحيى الطاهر عبد الله، وبهاء طاهر، ومحمد البساطي، وغالب هلسا، وتعرفت على محفوظ في ندوة يوم الجمعة من خلال جلوسي في ريش في ذلك العام، ومن هناك بدأت أكتب في جريدة (المساء) التي كانت منبرا للأدباء الشباب، وقدمت عبد الرحمن الأبنودي ودنقل والكثيرين، ونشرت أول قصة لي عن طريق كاتب القصة المعروف فاروق منيب، المشرف على الملحق الأدبي بها، في أغسطس (آب) 1969، وكان عنوانها (الأمواج). وبعدها، حينما ذهبت إلى مقهى ريش يوم الجمعة، فوجئت بالجمع المحيط بمحفوظ يتكلم عن هذه القصة، وكان هناك صديقي الراحل إبراهيم عبد العاطي الذي أشار إليّ وقال هذا هو عبده جبير، وإذا بمحفوظ يعبر عن فرحته بها وتحدث عنها بترحاب شديد، وكان معجبا بأجواء القصة الصعيدية واللغة البسيطة التي كتبتها بها، وأذكر جيدا كم كان دمث الخلق، وكلما قرأ لي أو لأي شاب كان يشيد بما يعجبه وما لا يعجبه كان يؤثر الصمت».
لكن جبير كشف لنا كيف كان محفوظ يبدو في لحظات غضبه. في قصته الثانية عن المقالة التي أغضبته ووصف كاتبها «بقلة الأدب»، كان جبير قد قام بمغامرة إصدار مجلة شهرية لعروض الكتب اسمها «كتب عربية»، وقرر أن يكون موضوع غلافها الأول رواية «حضرة المحترم»، وكتب عنها الكاتب سليمان فياض. لم يكن يعلم جبير حينما حمل العدد الأول من مجلته فرحا وتلقاها محفوظ بابتسامة عريضة وشكره، إلا أنه في الأسبوع التالي فوجئ بمحفوظ يتجاهله هو وسلميان فياض، فلم يلق عليهما التحية المعتادة. يقول جبير: «لم تكن مرارتي تتحمل الموقف، فغادرت مقهى الحرية قبل أن تميد الأرض بي، ومشيت إلى بيتي». في اليوم التالي حينما ذهب فياض بنفسه إلى مقهى ريش، وكان الحوار حول المجلة، وحينما تحدث عنها أمسك محفوظ بها موجها الكلام لفياض «دي بقه قلة أدب». لم يقو فياض على الصدمة، وغادر محفوظ الندوة ومنذ ذلك الوقت «تغير محفوظ تجاهي لدرجة أنه قاطعني أكثر من 3 سنوات لم يوجه لي التحية حين يهل على المقهى وأكون جالسا، بل إنه تمادى لدرجة أنه لم يرد على تحيتي حين تجرأت». بعدها لم يذهب جبير مرة أخرى إلى ريش، وانتشر الأمر بين المنتديات الثقافية في القاهرة، و«بقت فضيحة بجلاجل» نشر جبير نص المقالة كاملا عله يعرف سبب غضب محفوظ الذي لم يعرفه حتى الآن.
عادت المياه لمجاريها وجمعتهما مواقف كثيرة بعدها، كان أهمها اللحظات الأولى لفوز محفوظ بنوبل، فيعود بنا ليوم الخميس 16 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1988، حينما هاتفه مدير تحرير مجلة «سيدتي»، أسامة الغزولي، من لندن يطلب منه ملخصات قصيرة لكل أعمال محفوظ الـ46 خلال 6 ساعات، صدم جبير، فقد ظن أن محفوظ وافته المنية، لكنه فرح بخبر فوزه بنوبل: «أنا حتى الآن لست مستوعبا ما فعلته. لقد أغلقت علي الباب وظللت أكتب في أعمال محفوظ»، لكنه قدم في كتابه وثيقة رائعة بعنوان «الدليل الكامل لأعمال نجيب محفوظ» تضم حصيلة ما كتبه عن صاحب جائزة نوبل، يقول: «كنت وقتها في منزلي وهو يوم عطلتنا في مجلة المصور، لكن رئيس تحريرها آنذاك، مكرم محمد أحمد، طلب مني الذهاب فورا لمنزل محفوظ، ويروي تفاصيل وصول جحافل الصحافيين والمصورين على الشقة الصغيرة، وبدأ كل منهم يأخذ دورا مساعدا، فقام جبير بالرد على الهاتف وتلقى التهاني، وما قاله محفوظ ليحيى حقي: «الحقيقة أنك تستحقها أكثر مني». ووزع جبير المهمات على الصحافيات لمساعدة السيدة عطية الله إبراهيم، زوجته، وقد أعياها التعب: «كنا جميعا نحس بأن هذا بيتنا، وأننا أبناء الرجل الكبير الذي انتزع لنا جائزة نوبل من فم أسد العالم».
وحول طقوس الكتابة الروائية لدى محفوظ، يقول جبير: «كان قليل الإفصاح عن طقوس أعماله، لكن كلنا كنا نعرف أغلبها. كنا نعلم أنه كان يستيقظ مبكرا، ويذهب للتمشي ويشتري الجرائد ويجلس إلى المقهى ثم يسير من العجوزة حتى جريدة (الأهرام) ويلتقي بالناس ثم يعود لبيته للغذاء والنوم ثم يجلس للكتابة، لكن أهم مبادئه هي أنه كان له نظام صارم، كان يقسو على نفسه حتى يستطيع أن يحافظ على وظيفته الحكومية، لأن الأدب لم يكن يكفل له حياة كريمة».
ويكشف جبير أيضا كيف كان محفوظ «يجور» على رواياته من أجل السينما، لأن «السينما فن آخر غير الرواية، لذا فإنني أعطي الحرية الكاملة للسيناريست والمخرج، ليفعلا ما يشاءان بروايتي». ويكشف لنا أيضا كيف كان يستغل عائد عمله ككاتب سيناريو في الإنفاق على الأدب وكيف دفع من دمه وأعصابه، وأنه لم يكن مرتاحا في التعامل مع السينمائيين، لكنه لم يكن يفرض شروطا في التعامل مع المنتجين والمخرجين.
ويروي جبير قصة نقل أعمال نجيب محفوظ إلى اللغات العالمية وكيف بدأت ومن هو البطل المجهول لكثير من القراء الذي كان وراء ذلك؟ إنه جونسون ديفيز أول من ترجم أعمال محفوظ للإنجليزية في الأربعينات في مجلته «أصوات» التي أصدرها في إنجلترا عام 1960. وقد عانى هذا الرجل كثيرا في سعيه لوضع الأدب العربي على الساحة العالمية، وهو الرجل الذي ارتبط بجبير بعلاقة وطيدة لا تزال قائمة حتى الآن، فهو يقطن إلى جواره في قرية تونس بالفيوم؛ حيث يعيشان على أطلال ذكريات رائعة مع محفوظ. وترجم ديفيز لجبير عدة أعمال كما كتب عنه في سيرته الذاتية المنشورة بالإنجليزية.
ولعل الفصل الأكثر إثارة الذي يرويه جبير من حياة محفوظ هو كيف كان عاثر الحظ فيما يتعلق بالأمور المادية، ويروي قصة المرأة الفرنسية التي «لطشت نصيبه من فلوس جائزة نوبل»، وكان ذلك في عام 1987، إذ احتالت على محفوظ باسم جمعية أدبية وهمية في باريس بحجة نشر أعماله بالفرنسية، لكنها لم تقم بنشر أي شيء، وحينما وقع مع الجامعة الأميركية طالبته بتعويض مادي كان يعادل 80 ألف دولار قيمة نصيبه من الجائزة بعد أن فرقه على أسرته. ويروي كيف نصبت على عدد من أدباء مصر، ومنهم إبراهيم أصلان، وهو شخصيا؛ حيث أقنعتهم بالانضمام لعضوية تلك الجمعية ودفعوا الاشتراكات بالدولار.
القيمة الكبيرة التي يمثلها محفوظ لدى جبير دفعته لأن يبدأ في مشروع موسوعة لنجيب محفوظ ليضم فيها كل ما يتعلق بأدبه وحياته وتاريخ القاهرة من خلال أعماله، واضعا نصب عينيه موسوعة «جيمس جويس» التي أعدها الباحث طه محمود طه، وقد تعاون معه المؤرخ عرفه عبده، وكان ذلك بعد فوزه بنوبل. وبالفعل عقد جبير جلسات عمل مع محفوظ في مكتب توفيق الحكيم بـ«الأهرام»، وآنذاك قال محفوظ: «هذا مشروع ضخم المفروض أن تقوم به مؤسسة كبيرة»، حاول جبير أن يبحث عن منحة تساعده على إنجاز الموسوعة التي تحمل الكثير من نفقاتها، إلا أنه لم يحصل عليها ولم تدعمه وزارة الثقافة في ذلك الوقت وتوقف المشروع.
وحول نيته في استكماله الآن، قال: «بالطبع أرغب في خروج الموسوعة إلى النور، لكن لم يعد لدي الطاقة أو الوقت لها نتيجة أنني أعمل على الانتهاء من عدد من النصوص، لكن لا مانع لدي أن أقدم المادة التي لدي لأي فرد أو مؤسسة لكي تكون مرجعا معتمدا، لأن هناك تواريخ ومفاهيم مختلف عليها في حياة محفوظ، أريدها موسوعة علمية متقنة ويراجعها أدباء ونقاد وباحثون، لكي تكون مرجعا عن محفوظ، لأنه إلى الآن العمل الوحيد الذي أراه قدم نقدا حقيقيا لأعمال نجيب محفوظ هو كتاب إبراهيم فتحي (العالم الروائي عند نجيب محفوظ) الذي تناول المرحلة الأولى من أعمال نجيب محفوظ تناولا عميقا جدا، لكن لا يزال محفوظ مظلوما في النقد والدراسة التي يجب أن تحصل عليها أعماله. وعموما، لا يوجد كتاب جيد عن فن الرواية في العالم العربي، النقد لدينا أغلبه كتابة أكاديمية مدرسية ليس لها مذاق، أو مجرد كتابة صحافية».
ورغم عشق جبير لأعمال محفوظ، فإنه انضم إلى مدرسة أدبية مغايرة وهو ما نجده في أعماله، مثل: «فارس على حصان من خشب»، و«تحريك القلب»، و«سبيل الشخص»، و«عطلة رضوان»، و«رجل العواطف يمشي على الحافة»: «تأثرت بكثير من الكتاب، لكن تأثير محفوظ لم يكن في تجاربي الأدبية، هو كلاسيكي ورائد من رواد الأدب العربي، وقدم لنا مكتبة نستند إليها، لكني أميل للتجريب، وأنتمي لمدرسة مختلفة تماما».
روى جبير كيف «عمدت الرواية المصرية بالدم حتى سال دم محفوظ شخصيا»، وذلك عن حكاية رواها له محفوظ حول ردود الفعل التي صاحبت نشر رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل التي أثارت خناقة بين «طلبة الأزهر» والأفندية واستعملت فيها «النبابيت» وسقط فيها عدد لا بأس به من الشباب المحب للأدب، وكيف كان الاعتراض على وصف رجل لعيني وقوام لفتاة.. إلخ. يقول جبير: «لقد كان سعيدا حينما علم أنني كتبت ما رواه لي حول رواية (زينب) لكنه لم يكن يعلم وهو يروي تعميد الرواية العربية بالدماء أن دماءه هو شخصيا سوف تسيل بسبب رواية (أولاد حارتنا) بسبب تقرير كتبه أحد الفقهاء».
لمقاهي وسط القاهرة مكانة خاصة لدى جبير، وكان المكوث فيها بغرض التعلم وثقل موهبته والتعرف على كل ما هو جديد في عالم الثقافة والأدب والفن، لكنها الآن لم تعد كما عهدها، أصبحت مكانا لـ«خرتية الأدب» الذين يستغلون الأدباء الكبار ويحاولون التطفل عليهم، وتحولت كما يراها «جلسات نميمة»، لذا قام بمقاطعتها، فسألته أثناء مكوثك إبان الثورة المصرية في وسط القاهرة؛ حيث أطلال ذكرياتك مع محفوظ، كيف كان سيرى الأوضاع التي آلت إليها مصر مع حكم الإخوان وموجة التشدد والدماء التي سالت «أظنه كان سيكون مذهولا كما أصابني الذهول، وأصاب كثيرا من الأدباء والمواطنين العاديين، لكنه كان سيكتب عنها كما لم يكتب من قبل».
جسد جبير الثورة بالخيال وكتب «بائعة الزهور» التي نشرها في (الأهرام) حول فتاة تبيع الزهور في ميدان التحرير أثناء الثورة وتصعد فوق مجمع التحرير وتستخدم تنورتها في أن تكون مظلة تحملها أعلى ميدان التحرير لكي ترمي بالزهور على كل من هم فيه، لكن يعترض جبير على اسم «أدب الثورة» فهو يرى أن الأديب يتأثر كإنسان بالأحداث السياسية، فيكتب ما عايشه، لكن «أدب الثورة».. لم يتشكل بعد «ما يمكن أن يطلق عليه ذلك الاسم، فهناك محاولات ناجحة وفاشلة، لكن هناك فارقا بين الكتابة الأدبية التي تقوم على الموهبة والمشاركة في الحياة العامة». ويضيف: «لدي عدة نصوص طويلة حول الثورة ونشرت أحدها، لكن لفت نظري ما طرحته الثورة من لغة جديدة بين الناس لغة مبنية على فكرة الحيرة والحوار والحقيقة بعكس لغة التسلط والاتجار والتدليس، وكتبت مقالة في مجلة (الرواية) عن اللغة التي طرحتها الثورة، ولدي نص بعنوان (إعلان بورسعيد كعاصمة للخيال) كتبته بعد حادثة استاد بورسعيد وعن مرارة أهلها وأنها مدينة ملهمة للأدباء، كما كتبت نصا حول فكر المتشددين من وحي الثورة (نحن في مرآة الإخواني المتسلف) سوف تصدر قريبا في كتاب».
وعن رؤيته لحالة الأدب والإبداع في مصر والعالم العربي، يقول: «الحراك الاجتماعي الحاصل من قبل الثورة، وأثنائها وبعدها، دفع الكثير من الناس في مصر والعالم العربي إلى اللجوء لشكل الرواية للتعبير عن مشاعرهم وعواطفهم وأفكارهم عن النماذج البشرية التي يعيشونها، وهي موجة عامة حدثت أيضا في فترات تاريخية مختلفة. ففي الستينات عدد كبير من البشر يكتبون القصة القصيرة، لدرجة أن غالب هلسا كتب ساخرا: (لو مشيت في أي شارع من شوارع القاهرة، من الممكن أن تسقط على رأسك قصة قصيرة). لمن في النهاية سينسحب عدد كبير، وتتبلور الصورة أكثر وتضم الكتاب الجادين فقط».
ويؤمن جبير بأن «كثيرا من الكتاب سوف يتراجعون إلى الخلف ويأخذون مكانهم الطبيعي، لأنه في المراحل السابقة في الرواية كان هناك ما يمكن تسميته بالكتابة (البيست سيلر). كان إحسان عبد القدوس يطبع أكثر من محفوظ 10 و15 مرة، ولكن محفوظ ظلت له قيمته الأدبية التي لم تبارح مكانها عبر السنين. لست ضد الروايات السهلة التي تسلي الناس، لكن الرواية في النهاية أدب وقيمة أدبية ومجهود ضخم يكاد يحتاج إلى (الرهبنة)، لكن بعد عدة سنوات سوف تصفو الساحة من الأعمال الرديئة وأعمال المتطفلين على الأدب، وتعود إلى الوضع الطبيعي، لأن الفارق كبير بين الأدب الجاد والأدب المسلي، فالبعض يكتب وعينه على الأفلام وعلى المسلسلات، لكنه أمر صحي يؤكد حيوية المجتمعات التي تبرز فيها هذه الظاهرة».



نشيد الأناشيد وشعرية الحنين إلى الفردوس

جيمس فريزر
جيمس فريزر
TT

نشيد الأناشيد وشعرية الحنين إلى الفردوس

جيمس فريزر
جيمس فريزر

يتعذر الحديث عن الحب دون التوقف ملياً عند «نشيد الأناشيد»، بوصفه أحد أهم النصوص المؤسسة لشعرية العشق والافتتان التي عرفها الكوكب الأرضي على امتداد العصور. ذلك أن في ثنايا هذا النص المدهش من جماليات أسلوبية وفنية، ومن تباريح العشق الروحي والجسدي، ما جعله شديد الأثر على الكثير من قصائد الحب التي كُتبت من بعده، بقدر ما شكّل على الدوام مصدر حيرة الباحثين الذين تناولوه بالنقد والدراسة والتحليل. ولعل أكثر ما يستوقفنا بشأن هذا النشيد، وقبل الولوج إلى جمالياته ودلالاته الفنية والإنسانية، هو وروده كسفْر مستقل من أسفار «العهد القديم»، التي تركز في مجملها على سرديات دينية تتعلق بخلق العالم وتتبُّع أحداثه المفصلية، وبسيَر أنبيائه الكثر وما عانوه، في سياق الصراع الدائم بين الخير والشر، من آلام ومكابدات.

والملاحَظُ أن حرص القرآن الكريم على تنزيه الأنبياء عن ارتكاب المعاصي، لم يقتصر على الملك سليمان وحده، بل طال أباه داود، الذي اقتصرت صورته في القرآن على العبادة والعلم وطاعة الخالق، فيما ينقل عنه «سفر صموئيل الثاني»، بأنه الرجل النزق الذي لم يتوان عن قتل قائد جيشه، لمواقعة زوجته «بثشبع»، وقد شاهدها تغتسل عاريةً، قبل أن تحمل في وقت لاحق بابنه سليمان. ولا تختلف صورة الابن في «العهد القديم» عن صورة الأب. ففي «سفر الملوك الأول» يظهر سليمان بوصفه الذكَر الممتلئ شبقاً، الذي شغف بنساء من جميع الأعراق، وبينهن من نهاه الله عن الزواج منهن، ولكنه «التصق بهن لفرط محبته لهن، فكانت له سبعمائة زوجة وثلاثمائة محظية، انحرفن بقلبه عن الرب».

غلاف «نشيد الإنشاد» بترجمة أنسي الحاج

وسواء تعلق الأمر بالأب أو بالابن، فإن إلحاح الرواية التوراتية على قدرات الملكين الجسدية الفائقة يعكس في عمقه نفياً واضحاً لعصمة الأنبياء، بقدر ما يبدو تباهياً بفحولة الحاكم اليهودي مقابل «تأنيث» الآخرين، أفراداً كانوا أم شعوباً وجماعات. وإذ تركز السردية التوراتية على افتتان بلقيس بجمال سليمان وسعيها الحثيث للظفر به، تذهب السردية القرآنية بالمقابل إلى أن سليمان هو الذي بذل كل جهده للظفر ببلقيس. إلا أن اهتمامه بها لم يكن بدافع شغفه المفرط بجمالها الفاتن، بل بهدف إبعادها عن ديانتها الوثنية، وإعادتها إلى طريق الإيمان القويم. وهو الأمر الذي يؤكده ما جاء على لسان ملكة سبأ في الآية الكريمة «ربِّ إني ظلمتُ نفسي وأسلمتُ مع سليمانَ لله ربِّ العالمين».

وإذ يحرص «النشيد» على إظهار سليمان في صورة الملك الشاعر الذي تيمه العشق، يبدو هذا الحرص بمثابة تصحيح متأخر للصورة النمطية التي رسمتها له أسفار «العهد القديم» الأخرى. ولعل التناقض الواضح بين صورة سليمان في «سفر الملوك» وصورته في «نشيد الأناشيد» هو الذي حدا ببعض الدارسين إلى الاستنتاج بأن سليمان قد يكون نظم «النشيد» في فترة كهولته، أي بعد تراجع تطلُّبه الجسدي، وتقدُّم الروح لكي تحتل مكانها اللائق على ساحة الهيام والوجد. ومن الباحثين من ذهب إلى مسالك ومقاربات أخرى؛ حيث تساءل أنسي الحاج في تقديمه لـ«النشيد» الذي أعاد ترجمته بلغة عالية، عما إذا كان هذا الأثر الاستثنائي من كتابة سليمان نفسه، أم هو «مجموعة أشعار بابلية المصدر في غناء حب عشتار وتموز؟ وهل كتبه كتّابه تحت الروح الهيليني، أم لملموه من الأدب الإسكندراني ونقلوه إلى العبرية؟». كما ذهب البعض إلى قراءات أخرى، فرأوا فيه رمزاً لاتحاد يهوه بإسرائيل أو المسيح بكنيسته.

والواقع أن في النشيد ما يترك الباب موارباً إزاء أي جواب حاسم بشأن مؤلفه أو مؤلفيه الحقيقيين. ومع أن اسم سليمان يتكرر غير مرة في فصوله، مثل «أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، كشقق سليمان»، أو «الملك سليمان عمل لنفسه تختاً من خشب لبنان»، أو «كان لسليمان كرْم في بعل هامون»، فإن في ذلك ما يرجح كونه بطل «النشيد»، وليس كاتبه بالضرورة. كما أن الأصوات الثلاثة التي تتعاقب على الكلام، وهي الرجل والمرأة والجوقة، يمكن أن تقودنا إلى الاستنتاج بأن النص أقرب إلى طقس عشقي ذي طبيعة دينية، كتبه شاعر أو أكثر، وتم تقديمه في الهيكل الذي بناه سليمان من خشب الأرز، تمجيداً له وتعظيماً لشأنه.

وقد يكون التداخل الملغز بين صورتي الملك والراعي في فصول «النشيد» المختلفة، واحداً من العناصر الإضافية التي تترك في ذهن القارئ المزيد من البلبلة واللبس حول هوية كاتبه. إذ ثمة ما يشير إلى أن العاشقين كانا راعيين من عامة الشعب، مثل «يا من تحبه نفسي، أين ترعى أين تربض عند الظهيرة؟»، أو «أيتها الجميلة بين النساء، أبرزي في أثر الغنم، وارعي جداءك عند مساكن الرعاة». كما أن حث المرأة حبيبها على الهرب، بقولها في المقطع الختامي «اهرب يا حبيبي وكن كالظبي أو كغفر الأيّلة على جبال الأطياب»، لا يستقيم مع مقام الملك الذي كانت تهابه الشعوب والكائنات كلها، بل يبدو فعل الطلب موجهاً إلى الراعي، الذي قد يكون دخوله على خط العلاقة، تجسيداً لحنين المرأة إلى سليمان نفسه في صورته الرعوية الريفية، بعيداً عن سطوة الحكم وأبهة السلطة المدينية.

وإذا كان من المتعذر فصل النشيد عما سبقه من مؤثرات وروافد مختلفة، بخاصة حوارات «إنانا» و«ديموزي» ذات الطابع الإيروتيكي، التي تقيم تماهياً واضحاً بين طقوس الزراعة والخصب والفعل الجنسي، كما بيّن جيمس فريزر في «الغصن الذهبي»، وصموئيل كريمر في «طقوس الجنس المقدس»، فإن «النشيد» يكتسب أهميته من جمالياته الفنية والدلالية، ومن مناخاته المدهشة التي تجمع بين الشغف المحموم ورغبة الانصهار بالآخر:

اجعلني كخاتم على قلبك

كخاتم على ذراعك

لأن الحب قوي كالموت

والغيرة قاسية كالهاوية

مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ الحب

والأنهار لا تغمره

كما تتضافر في النشيد، الذي يعده زنون كوسيدوفسكي «واحداً من أروع وأندر القصائد الشعرية الشهوانية في الأدب العالمي كله»، الحواس الخمس مجتمعة، لتمنح العلاقة العاطفية ما يلزمها من أسباب النشوة الجسدية والثمل الروحي. فهو يحتشد بشتى الألوان التي يضيء كل منها جانباً خاصاً من جوانب الكرنفال العشقي. فالمرأة في «النشيد» يبدو شَعرها شبيهاً بقطيع ماعز على جبل جلعاد، وشفتاها كسمط من القرمز، وعنقها كبرج من العاج. أما الرجل من جهته، فهو لحبيبته عنقود حناء، وغدائره كسعف النخل حالكة كالغراب، ويداه حلقتان من ذهب، وجسمه مغشّى بالياقوت الأزرق.

وفي هذا العالم البدئي للعناصر والكائنات، لا يتبقى من فاصل يُذكر بين الإنسان والطبيعة، بحيث تصبح النباتات حالة من أحوال الجسد الإنساني، ويصبح البشر بدورهم امتداداً للأشجار والنباتات. وحيث يبدو الخريف والشتاء رديفين رمزيين للشيخوخة والموت، يتقمص الربيع بالمقابل صورة القيامة، متكفلاً بإعادة الحياة إلى نصابها، وبضخ الدماء الحارة في العروق التي جمدها الصقيع. ولعل أكثر ما يجسد هذه التوأمة بين طرفي الخلق هو قول الرجل العاشق منادياً امرأته المعشوقة:

قومي يا خليلتي يا جميلتي وتعالي

فإن الشتاء قد مضى والمطر مرَّ وزال

الزهور ظهرت في الأرض

والتينة أخرجت فجّها

والكروم أزهرتْ وفاح عَرْفُها

ومع عزف النشيد على وتر العلاقة المتداخلة بين الجسد والروح، كما بين الديني والدنيوي، يظهر الاحتفاء بحاسة الشم وكأنه ضربٌ من ضروب اللعب المقصود على وتر الانجذاب الجسدي، وتنسُّمٌ لهبوب الأزمنة المنقضية على حدائق الرغبات. وإذ تتكرر في النص عبارات من مثل «مَن هذه الطالعة من القفر مطيبة بالمرّ واللبان» و«خدّاه كخميلة الطيب» و«حلْقكِ كخمر طيبة»، نلاحظ في الوقت نفسه تركيزاً على التفاح ومذاقاته وروائحه المشتهاة، كما في عبارات «عَرْف أنفكَ كالتفاح» و«تحت شجر التفاح نبهتك» و«قوُّوني بالتفاح فقد أسقمني الحب». وإذا كان من البديهي أن نستعيد مع التفاح شجرة الخطيئة الأصلية وثمار الإغواء الشهواني، فإن الاستدعاء المماثل للرمان والكرمة والنخيل وغيرها، يعكس في عمقه الأخير حنيناً موازياً للعودة إلى الفردوس. فبمثل تلك العودة أمكن للعري أن يكتسي ثوبه الطهور، وللشهوة أن تنبثق عن أكثر المشاعر صلة بالعفة، وللمدنس أن يدخل في عباءة المقدس. وفي ظل ذلك الانصهار الكلي بين العناصر والكلمات، أمكن للعاشقين المدنفين أن يتحولا إلى نسخة ثانية عن آدم وحواء، سابقة على ارتكاب الخطيئة، وأمكن للجوقة الشبيهة بالكورس في المسرح الديني أن تسأل المرأة الوالهة «ما فضل حبيبك على الأحباء، أيتها الجميلة؟»، لتجيب الأخيرة بلا تردد:

حبيبي أحمر ونضر

غدائره كسعف النخل حالكة كالغراب

عيناه كحمامتين على أنهار المياه

وجسمه عاجٌ يغطيه اللازورد

ساقاه عمودا رخام على قاعدتين من إبريز

وطلعته كلبنان.


ثلاثة وجوه طينية من جزيرة فيلكا

ثلاثة وجوه طينية وختمان منقوشان من جزيرة فيلكا الكويتية
ثلاثة وجوه طينية وختمان منقوشان من جزيرة فيلكا الكويتية
TT

ثلاثة وجوه طينية من جزيرة فيلكا

ثلاثة وجوه طينية وختمان منقوشان من جزيرة فيلكا الكويتية
ثلاثة وجوه طينية وختمان منقوشان من جزيرة فيلكا الكويتية

يحتفظ متحف الكويت الوطني بمجموعة من المجسمات الطينية الأثرية، مصدرها جزيرة فيلكا التي تقع في الجهة الشمالية الغربية من الخليج العربي؛ حيث تبعد نحو عشرين كيلومتراً عن سواحل مدينة الكويت. تضم هذه المجموعة قطعاً متنوعة من حقب زمنية متعاقبة، أقدمها تلك التي تعود إلى زمن شكّلت خلاله فيلكا ركناً أساسياً من إقليم واسع امتد على طول الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية، وعُرف باسم دلمون. تتعدّد هذه القطع الدلمونية من حيث الأساليب والمواضيع، فمنها ما يبدو تقليدياً، ومنها ما يمثّل طُرُزاً نادرة يصعب تصنيفها. من النوع الثاني، تبرز ثلاثة وجوه صغيرة يمثّل كل منها وجهاً ذكورياً ملتحياً.

تُقسّم جزيرة فيلكا في زمننا إدارياً إلى مجموعة من القرى؛ منها قرية منطقة القصور التي تقع في وسطها، وقرية سعيدة في الجهة الشمالية الغربية منها، وقرية الدشت في الجهة الشماليّة الشرقية منها، وقرية القرينية المطلّة على البحر. تقع أهمّ المواقع الأثرية في الجزء الجنوبي الغربي من الجزيرة، وأشهرها منطقة تُعرف باسم «تل سعد»، وأخرى تُعرف باسم «تل سعيد». وبين هذين التلّين، في منطقة منخفضة مجاورة للساحل، يقع موقع ثالث يُعرف باسم «الخان»، أو دار الضيافة. استكشفت هذه المواقع بعثة دنماركية تابعة لـ«متحف أرهوس» خلال سلسلة من مواسم التنقيب، بدأت في فبراير (شباط) 1958 وانتهت في يناير (كانون الثاني) 1963. تواصلت بعدها أعمال المسح والتنقيب، وقامت بها بعثات خارجية متعددة، من الولايات المتحدة وإيطاليا وبريطانيا وفرنسا.

بحسب تقرير البعثة الدنماركية، تتألّف دار الضيافة «من اثنتي عشرة غرفة، غرفتان منها في الوسط ويرجّح أنهما كانتا تؤلفان ساحة البيت، أمّا جدرانه فهي لا تزال قائمة، وهي مبنية في بعضها من الآجر المربع، من النوع المعروف في بابل، ويُرجّح أنّه استُورد منها». من هذه الدار، خرج مجسّم صغير من الطين الأصفر يبلغ طوله 5 سنتيمترات، يمثّل رأس رجل ملتحٍ يعتمر قبعة مدببة مخروطية الشكل. يأخذ هذا الرأس في تكوينه شكل ما يُعرف هندسياً بـ«المعين»، أي المكعّب المائل، ويتألف من هرمين متقابلين متصلين لدى القاعدة، عند حدود عيني الوجه وأذنيه.

أُنجز هذا المجسّم بأسلوب متقن، تجلّى في تجسيم سمات الوجه التي بدت طبيعية، رغم ذوبان ملامح العينين في الكتلة الطينية. شفتا الفم بارزتان، ويفصل بينهما شق يحدّه خطان ناتئان عند طرفي الوجنتين، مما يوحي بابتسامة خجولة ترتسم على الوجه بخفر شديد. الأذنان كبيرتان، وهما محوّرتان، وتتّخذ كل منهما شكل نصف دائرة مجوّفة. تحدّ الذقن لحية طويلة تشكل مثلثاً يحوي سلسلة من الخطوط المحفورة تمثّل خصل الشعر المتدلية. القبعة طويلة ومدببة، وهي على شكل مثلث معاكس، تزيّنه سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية تلتقي عند قمة هذه الطاقية المدببة، ويحدّه في الأسفل شريطان متساويان في الحجم.

في التقرير الخاص بالبعثة الدنماركية، قيل إن لهذا الرجل «لحية شبيهة بلحى أهل وملوك أشور، وإلى هذه الدار كان يأتي ربابنة السفن وبحارتها بعد نزولهم طلباً للراحة، وهنا كانوا يجدون الطعام والماء العذب، ويقدّمون الهدايا والنذور وهم في طريقهم إلى بلدان المشرق وعند عودتهم منها». وأضاف التقرير: «ولا يخفى أن جزيرة فيلكا كانت هي أول محطة تتوقف عندها السفن في طريقها من أور إلى جنوب الخليج الذي كان يمتد حتى المدن السومرية في جنوب العراق، أي أن المسافة أكثر مما هي عليه الآن، ما يجعل الرسو في موانئ فيلكا أمراً طبيعياً». في هذه الدار أيضاً، وُجدت كذلك «كميات كبيرة من الفخار المكسور وبقايا آنية القوم، أمّا الآجر فيحتمل أنهم نقلوه من التل الغربي، واستعملوه في بناء هذه الدار».

خرج ختمان فريدان من نوعهما كذلك من موقع «تل سعد»، وهما من نتاج الحقبة الدلمونية الأخيرة التي تمتدّ من عام 1700 إلى عام 1500 قبل الميلاد

من موقع «تل سعد» الذي يحوي أطلال أهم المنشآت الدلمونية في الجزيرة، خرج مجسّمان آخران يمثل كل منهما وجهاً ملتحياً في أسلوب خاص، وهذان المجسّمان مسطّحان، ويغلب عليهما طابع النقش الناتئ البارز. الوجه الأول مستطيل، وأعلى رأسه حاسرٌ، وتتمثل ملامحه في عينين لوزيتين واسعتين، يعلوهما حاجبان مقوّسان متّصلان، يشكل كل منهما نصف دائرة ناتئة. عند نقطة اتصال هذين الحاجبين، ينسدل أنف يأخذ شكل مثلث ذي ضلعين عموديين طويلين. الفم كبير، مع شق مستقيم في الوسط يرسم حدود الشفتين. والذقن طويل، تزينه ثلاثة خطوط تختزل كما يبدو شعر لحية ممحوة.

الوجه الثاني بيضاوي، ويتميز بملامحه المحوّرة بشكل هندسي. العينان لوزيتان، ومقلتاهما محاطتان بأهداب واسعة، ويتوسطهما بؤبؤ دائري. الحاجبان عريضان ومنفصلان، وهما على شكل شريطين مزخرفين بسلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. معالجة الشاربين واللحية تمت وفق الأسلوب نفسه. الفم عريض، ويتكوّن من شفتين واسعتين وصلبتين ترسمان ابتسامة جليّة. يماثل هذا الوجه تحديداً في تكوينه وجهاً يحضر على ختمين منقوشين، أشارت إليهما الباحثة آنا هيلتون في دراسة أكاديمية تناولت أواني فيلكا الحجرية. وهذان الختمان استثنائيان، إذ لا نرى ما يماثلهما في ميراث أختام فيلكا الذي يتكون من مئات الأحجار، ويُعد الأكبر في هذا الميدان.

خرج هذان الختمان الفريدان من نوعهما كذلك من موقع «تل سعد»، وهما من نتاج الحقبة الدلمونية الأخيرة التي تمتدّ من عام 1700 إلى عام 1500 قبل الميلاد، وتتزامن مع بسط سلطة سلالة الكيشيين البابلية على دلمون بشكل مباشر. يتميّز أحد الختمين بكونه يحمل نقشاً على وجهه، ونقشاً على ظهره. يظهر الرأس الملتحي على نقش الوجه، ويعلو تأليفاً يضمّ ثوراً وسعفة من النخل، وهذان العنصران معروفان، وهما من المفردات الدينية المعتمدة في القاموس التشكيلي الدلموني. يتأكّد هذا الطابع مع النقش الذي يحتل ظهر الختم، ويمثل ثلاث قامات في وضعية جانبية، رافعة ذراعيها نحو الأعلى، في حركة تقليدية ترمز إلى الابتهال.

الختم الثاني صغير للغاية، وعلى وجهه المنقوش ببساطة شديدة تتكرّر صورة هذا الوجه في شكل مختزل مماثل. هوّية هذا الوجه المثير لم تتحدّد بعد، نظراً إلى ندرة النماذج التي تمثّله، وغياب أي كتابات منقوشة عن هذه النماذج المعدودة.


«تسعون» ميخائيل نعيمة بتوقيع مارون بغدادي

 عرض الفيلم في الرابطة الثقافية بطرابلس وتظهر خلال المناقشة من اليمين إلى اليسار سهى حداد وثريا بغدادي ونجا الأشقر
عرض الفيلم في الرابطة الثقافية بطرابلس وتظهر خلال المناقشة من اليمين إلى اليسار سهى حداد وثريا بغدادي ونجا الأشقر
TT

«تسعون» ميخائيل نعيمة بتوقيع مارون بغدادي

 عرض الفيلم في الرابطة الثقافية بطرابلس وتظهر خلال المناقشة من اليمين إلى اليسار سهى حداد وثريا بغدادي ونجا الأشقر
عرض الفيلم في الرابطة الثقافية بطرابلس وتظهر خلال المناقشة من اليمين إلى اليسار سهى حداد وثريا بغدادي ونجا الأشقر

بعد أكثر من ثلاثين سنة على غياب المخرج اللبناني مارون بغدادي التراجيدي، ها هي جواهره لا تزال تظهر وتمتع وتدهش.

قلة هم الذين سجّلوا أفلاماً وثائقية مع أدباء كبار غادرونا، تلاحق تفاصيلهم اليومية. كان لبغدادي حظ أن طلب منه عمل فيلم مع ناسك الشخروب، عندما كان الرئيس إلياس سركيس في سُدة الحكم، وأحبّ عمل أسبوع تكريمي لنعيمة بين 7 و14 مايو (أيار) من عام 1978، ببرنامج تضمّن مسرحية أخرجها يعقوب الشداروي، وكان هذا الفيلم الذي فقد أثره، ولم يعرف أحد شيئاً عنه، ويبدو أنه عُرض لمرة واحدة على «تلفزيون لبنان»، واختفى بعدها مثل كثير من كنوز الأرشيف اللبناني الذي أكلته الحرب.

«نادي لكل الناس» بالتعاون مع زوجة المخرج الراحل ثريا بغدادي، وهما يحاولان لململة أرشيفه، عثرا على نيغاتيف هذا الفيلم في فرنسا، وتمكنا من الحصول عليه بعد دفع تكاليف باهظة، ورقمنته، وإعادته إلى الجمهور.

في أحضان الطبيعة

الأزمات المتلاحقة، ومنها الانهيار الاقتصادي الذي ضرب لبنان، والوباء، من بعده، حالت دون أن يأخذ الفيلم حقه، لكن نجا الأشقر، مدير «نادي لكل الناس»، وثريا بغدادي، وسهى حداد (وحيدة ميّ ابنة شقيق نعيمة)، يواكبون الفيلم في جولاته اللبنانية، التي بدأت من بيروت، ومرّت ببسكنتا، قرية نعيمة، وأماكن أخرى، ووصلت إلى طرابلس، حيث عُرض الفيلم بمبادرة من الشاعرة ميراي شحادة، مؤسسة «منتدى شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحادة»، على هامش «معرض كتاب طرابلس». تلا العرض نقاش حول الفيلم المفاجأة الذي تبلغ مدته 56 دقيقة، ويحاور فيه المخرج ميخائيل نعيمة في بسكنتا، والشخروب، ويجول معه في مختلف المحطات، وصولاً إلى بيته الساحلي في الزلقا، ويذهب به إلى متحف جبران في بشري، في وقفة أدبية مؤثرة يخاطب خلالها صديقه الغائب جبران وكأنه لا يزال حياً، وكذلك نرى نعيمة يتحدث عن الحرب من وسط بيروت المدمر.

الفيلم الذي صُوّر بعد اندلاع الحرب الأهلية بثلاث سنوات، بكاميرا حسن نعماني، حرص على أن يكون أميناً لروح نعيمة، لحبه للطبيعة، للمكان الذي وُلد فيه. تشاهد الفيلم وكأنك تقرأ كتاباً لنعيمة، تدخل معه في ثنايا فلسفته، وهو يشرح ما يفكر به، ما يعتقده، ما يعيشه، بكلمات بسيطة، بعبارات تصل للمشاهد العادي.

تسع وثمانون سنة عمر ميخائيل نعيمة عند تسجيل الفيلم، لكنه يتحدث بنضارة ووضوح شديدين، يشرح بانسيابية لافتة بالنسبة لرجل يقارب التسعين، مما أوحى للمخرج بالعنوان الذي أطلق على الشريط، قياساً على اسم الكتاب الشهير لنعيمة «سبعون».

نرى نعيمة يتحدث عن غربته في نيويورك، عن أنفته من الضجيج، عن رغبته العارمة التي سكنته للعودة إلى أحضان الطبيعة، للإصغاء إلى ما تقوله له الأشجار، الصخور، السماء الصافية، كيف تخاطبه الجداول، هو المنخرط في هذا الوجود الجميل الذي وُلد فيه، حتى شعر بـ«أن الإنسانية كلها موجودة في داخلي».

تنقل الكاميرا بحب الجمال الأخّاذ الذي عانقه نعيمة طوال حياته، سواء في بسكنتا، أم الشخروب، في الصحو، وحين يهطل المطر وتتلبد السماء، عندما تحلّ الثلوج البيضاء على الجبال. لا يتعب نعيمة من الكلام على ما يعتمل داخله من خشوع وسكينة أمام هذا الجمال الطبيعي المهيب. وينطلق الأديب في شرح رؤيته للتقمص، وللانخراط اللانهائي في الوجود، مما يجعل فكرة الموت غير موجودة في ذهنه، بل هي الحياة المتجددة، الممتدة. لهذا ربما حين نشاهد نعيمة وسط الدمار في بيروت، يقول إنه يشعر بالأمل، وبأن كل هذا سينتهي، وستعود الحياة إلى المدينة، فهو برؤيته الخاصة، لا سبيل للهلاك، بل للولادة الدائمة، لكنه يحزن أمام مشهد القمامة في منزله بالزلقا، حيث عبثت يد الإنسان وجلبت البشاعة.

يرى أن المدينة تجتذب مختلف العناصر، بخيرها وشرّها، وهو ما يجعله يأنف منها، فيما القرية تبقى قادرة على تطهير نفسها، واستعادة نقائها.

يجيب بلا تأتأة ولا تردد عن الأسئلة الوجودية التي تُطرح عليه، عن علاقته بعائلته، بوالده الأمي، وأم لا تفك الحرف والتي كانت سعيدة، برؤية الأقلام والأوراق في البيت، محتفية بابنها الكاتب، لكن الوالدة لم تكن لتتصور أن الكتابة ستجعل ابنها ينسى حاجته للطعام، ويعفّ عن الزواج، هذا كان مما أحزنها.

نرى نعيمة في الصور مع أفراد العائلة، ومرة أخرى نشاهده يتبادل حواراً شقياً مع سهى حداد التي رافقته مع والدتها في مختلف مراحل حياته، وشاركت في الحوار حول الفيلم. لكن المشاهد الأكثر قوة هي التي يتحدث فيها عن الأرض، عن أن منها يأكل الإنسان، ويلبس ويشرب، هي للإنسان كل شيء، ومع ذلك ثمة من يتكبّر على التراب ويأنف من أن يلامس رجليه.

أما حين يتحدث عن جبران، فهنا يقطع ناسك الشخروب كل شكّ حول تلك الأقاويل التي تتهمه بعدم الود لصديقه، يخبرنا نعيمة أنه كان قد قابل جبران، قبل أيام قليلة من تدهور حالته في أميركا، وحين عرف بالأمر هرع إليه في المشفى، وبقي إلى جانبه ما يقارب خمس ساعات، ولم يغادره إلا بعد أن لفظ أنفاسه الأخيرة.

يصف جبران بأنه كان يعمل كالمحموم، يتجاهل مرضه وتعبه، ويرى أنه كان يعيش بقلبه وعاطفته، مع أنه كان يُعمل العقل، لكن العاطفة عنده كانت أقوى.

ويقف نعيمة أمام الكاميرا في متحف جبران في بشري وراءه لوحاته، ويخاطب صديقه وكأنه يحدثه، بروحانية وشفافية مؤثرتين، كان ثمة علاقة تفوق تلك التي سكبها وهو يروي سيرة صديقه جبران خليل جبران في كتاب خصصه له، فقد أعمل نعيمة النقد والعقل، ليخرج بكتاب للتاريخ، أكثر مما ترك عاطفته تنساب لتكتب عن الإنسان الذي عايشه ورافقه في الغربة.

تقول ثريا بغدادي إنها طوال 12 سنة من حياتها مع مخرج الفيلم لم يحدثها قط عن هذا الشريط، ولم تكن تعلم بوجوده، وأنها ذهلت حين رأته، وعملت على ترجمته، وها هي تجول به؛ لأنها، كما كل المهتمين بالعمل، تعتقد أنه وثيقة نادرة، وأنه يجب أن يُرى وأن يُعرَض في المدارس والجامعات، وأن يصل إلى أكبر عدد من المتفرجين.

أما سهى حداد فتروي حكايتها مع جدو ميشا، كما تسمي ميخائيل نعيمة الذي رباها وعاش معها ومع والدتها بعد طلاق والديها، عن كرمه مع عائلته، عطائه الذي لم ينقطع. حين نسألها عن الشائع عنه أنه كان لا يحب الاختلاط بالناس، تجيب بأنه لم يكن يخرج لزيارة أحد، بل كان هو من يستقبل رواده الدائمين، وأن انسيابية حديثه في الفيلم وهو في هذه السن المتقدمة، لأنه كان دائم الحوار مع زواره الذين لم ينقطعوا عنه مطلقاً. وذكرت أن منزله في الزلقا وكل أغراضه نقلتها إلى منزل جديد في منطقة المطيلب، المفتوح لمن يريد الزيارة. أما الجزء الأكبر والمهم من مكتبته فهو الموجود في منزله الثاني ببسكنتا، ولا تزال محفوظة.

ويؤكد نجا الأشقر ضرورة أن يجد هذا الفيلم الذي عمل، كما بقية أفلام مارون بغدادي، على رقمنته وحفظه ونشره، لا بد أن يشاهَد على أوسع نطاق؛ لأهميته كوثيقة فريدة عن كاتب لعلّ لبنان، اليوم، وكل المنطقة العربية بحاجة إلى سعة أفقه، ورجاحة موازينه.


إليزابيث بيشوب... شاعرة تستدعي الشاعر الكامن فينا

إليزابيث بيشوب
إليزابيث بيشوب
TT

إليزابيث بيشوب... شاعرة تستدعي الشاعر الكامن فينا

إليزابيث بيشوب
إليزابيث بيشوب

للمرأة مكان متميز في لوحة الشعر الأميركي ابتداءً من آن برادستريت أول شاعرة أميركية مهمة في القرن السابع عشر ومروراً بإميلي دكنسن في القرن التاسع عشر حتى شواعر القرن العشرين من أمثال إدنا ميلاى، وجرترود ستاين، وإيمي لويل، وهيلدا دوليتل (ه.د)، وميريان مور، وسيلفيا بلاث، وآن سكستون، وإدرين رتش، وإريكا يونج، ومن جئن بعدهن في هذه الألفية الثالثة.

وإليزابيث بيشوب (1911 - 1979) شخصية مهمة في هذه الكوكبة من الشاعرات. وهي موضوع كتاب

«Elizabeth Bishop» الصادر عن «مطبعة جامعة أوكسفورد» في 2022 من تأليف جوناثان بوست

(Jonathan Post)، أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس، ومؤلف كتب سابقة منها «شعر شكسبير» و«شعر أنطوني هكت» و«سوناتات شكسبير وقصائده».

لا ترجع مكانة بيشوب إلى غزارة إنتاج فهي - على العكس - مقلة لا يجاوز مجموع قصائدها 90 قصيدة أو نحو ذلك، ولم يصدر لها في حياتها سوى أربعة دواوين هي: «الشمال والجنوب» (1946)، «ربيع بارد» (1955)، «أسئلة الشعر» (1965)، «جغرافيا 3» (1976). وبعد وفاتها صدرت لها «القصائد الكاملة 1927- 1979» في 1983. كذلك نشرت أيضاً، بعد سنوات من رحيلها، كتاباتها النثرية (1984)، ومختارات من رسائلها (1994). ويمكن أن نضيف إلى ذلك ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية أعمالاً من اللغات البرتغالية والإسبانية والفرنسية. ومن هذه الترجمات ثلاث أقاصيص للروائية البرازيلية كلاريس لسبكتور.

ليس في حياة بيشوب أحداث لافتة كتلك التي نجدها في حياة سيلفيا بلاث وآن سكستون اللتين ماتتا منتحرتين، أو حياة إدنا ميلاى وإريكا يونج المليئة بقصص الغرام. لقد ولدت في ولاية ماساشوستس، وبعد وفاة أبيها (كانت في الشهر الثامن من عمرها حين توفي) وسلسلة الانهيارات العصبية التي أصابت أمها الكندية نشأت برعاية جديها من ناحية الأم في نوفا سكوشا بكندا، وتلقت تعليمها في كلية فاسار، حيث التقت في 1934 بميريان مور التي تشترك قصائدها معها في بعض ملامح أخصها دقة الملاحظة الوصفية. وفيما بعد ارتبطت بصداقة مع الشاعر روبرت لويل. عملت مستشارة للشعر بمكتبة الكونغرس بواشنطن في 1949-1950، وحصلت على جائزة «بولتزر»، أرفع الجوائز الأدبية الأميركية، في 1956، وانتخبت عضواً في «أكاديمية الشعراء الأميركيين» في 1964، وكانت أستاذة بجامعة هارفرد في سنواتها الأخيرة.

قامت بيشوب بأسفار عديدة في أوروبا وشمال أفريقيا والمكسيك وأميركا الجنوبية وحوض نهر الأمازون ونيويورك وجزر جالاباجوس في المحيط الهادي، وذلك قبل أن تستقر في البرازيل ثم في بوسطن. وقد قالت عند تلقيها جائزة دولية في الشعر عام 1976: «إن أغلب قصائدي جغرافية أو عن سواحل وشواطئ وأنهار تصب في البحر. وأغلب عناوين كتبي جغرافية هي الأخرى». ومن عناوين قصائدها التي تحدد المكان والزمان: «باريس، السابعة صباحاً»، «أخبار الساعة الثانية عشرة»، «البرازيل، 1 يناير 1502».

من أهم قصائدها التي سنتوقف عندها هنا: «السمكة»، و«كروسو في إنجلترا»، و«الأيل الأميركي الضخم».

قصيدة «السمكة» - كما هو واضح من عنوانها - قصيدة وصفية، ولكنها تأملية أيضاً. وهي تقع في أكثر من سبعين بيتاً. لقد كانت بيشوب تمتاز بالملاحظة الدقيقة وبخيال بصري لا يفوته شيء حتى إن الناقد والشاعر الأميركي راندل جاريل قارن قصائدها بلوحات المصور الهولندي يان فرمير (من القرن السابع عشر) والمصور الفرنسي إدوار فويار (من القرن العشرين).

والواقع أن بيشوب كانت إلى جانب الشعر رسامة ترسم بالألوان المائية والجواش (الحبر)، وقد وصلنا منها حوالي أربعين لوحة. وكانت معجبة بالمصور السويسري بول كلي تذكره في أكثر رسالة من رسائلها، وقد قالت ذات مرة إنها كانت تتمنى لو كانت مصورةً بدلاً من أن تكون كاتبة. ورغم وجود ملامح سريالية في بعض قصائدها فقد كانت تنفر من لوحات المصور السريالي الألماني ماكس إرنست.

وقصيدة «كروسو في إنجلترا» (182 بيتاً) مونولوج درامي مستوحى من رواية دانيل ديغو «روبنسن كروسو» وموضوعها - كما هو معروف - بحار تتحطم سفينته ويجد نفسه وحيداً (باستثناء زنجي يدعى فرايداى يتخذ منه كروسو خادماً) على ظهر جزيرة في قلب المحيط يعيش بها 28 عاماً قبل أن تمر سفينة فتحمله إلى بلده إنجلترا. والقصيدة مؤلفة من 14 مقطوعة تتفاوت من حيث الحالة النفسية والطول. ونرى فيها كروسو بعد عودته إلى إنجلترا يشعر بالفراغ والخسارة والحزن إذ فقد خادمه المخلص:

كان فرايداى لطيفاً

كان فرايداى لطيفاً، وكنا أصدقاء.

إنها قصيدة حزينة، مرثية متنكرة، نظمتها بيشوب بعد موت صديقة لها. وقد وصف روبرت لويل القصيدة بأنها «خليط من الفكاهة والقنوط».

أما قصيدة «الأيل الأميركي الضخم»، فتصف رحلة أتوبيس في طريق متعرج ذات مساء في نوفاسكوشا من منظور راكب ينظر من نافذة الأتوبيس. إنه يمر بمشاهد وأحداث متنوعة فالأتوبيس يمر بـ:

خمس جزر، خمسة بيوت

حيث امرأة تنفض غطاء مائدة

بعد العشاء

ويتوقف الأتوبيس فجأة ويطفئ السائق الأنوار، إذ يبرز أيل ضخم من الغابة ويتوقف أمام الأتوبيس في منتصف الطريق. ولكن أحد الرجال يطمئن الركاب إلى أن الأيل ليس مؤذياً. إنها مقابلة غريبة مع كائن غير بشري، شيء يجاوز الذات. ويستانف الأتوبيس السير، ولكن الركاب (والشاعرة) يلقون نظرة أخيرة على الأيل الذي فارق موضعه وتنتهي القصيدة بهذا التساؤل:

لم، لم نستشعر

(نحن جميعاً نستشعر) هذا

الإحساس العذب بالفرحة؟

كانت بيشوب شاعرة غنائية في المحل الأول. لم تكتب شعراً سياسياً ولا شعراً اعترافياً كذلك الذي كان يكتبه روبرت لويل وسيلفيا بلاث. إنها شاعرة السفر بامتياز في لوحة الشعر الحديث. وكانت حريصةً على ألا تكرر نفسها، وكل قصيدة من قصائدها كون مصغر أو عالم منمنم له بداية ووسط ونهاية. وكانت صانعة مدققة صبوراً (مرت قصيدتها المسماة «فن واحد» بست عشرة مسودة).

ويختم جوناثان بوست كتابه عن بيشوب بقوله إن قصائدها سطوح تزداد عمقاً كلما أنعمنا النظر فيها. إنها قصائد عن المعرفة التي تتكشف تدريجياً على مراحل. ويتساءل: هل عاشت قصائدها عبر الزمن؟ والإجابة: أجل كما تشهد استجابة الطلاب في الجامعات والمدارس لقصائدها، والدراسات النقدية المتزايدة التي تظهر عنها عاماً بعد عام. ويطرح بوست السؤال: «لماذا نقرأ بيشوب؟»، ويجيب: «لأنها تستدعي الشاعر الكامن في كل منا».


«الآن بدأت حياتي»... وهم الحب في رواية سورية

«الآن بدأت حياتي»... وهم الحب في رواية سورية
TT

«الآن بدأت حياتي»... وهم الحب في رواية سورية

«الآن بدأت حياتي»... وهم الحب في رواية سورية

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت رواية «الآن بدأت حياتي» للكاتب السوري سومر شحادة. تتناول الرواية قضايا إنسانية واجتماعية، مثل الحب وفق شروط صعبة وبيئة غير مواتية، فضلاً عن الطلاق والوحدة في إطار تشويقي تقوم حبكته الأساسية على جريمة قتل غامضة. وفي التفاصيل، تبرز شخصية المحامي السوري الناجح والوسيم «يوسف» الذي يموت فجأة، قبل أن يهاجر مع زوجته إلى أميركا، ليقع الجميع تحت وطأة التساؤل: هل انتحر أم قتل أم كان موته حادث قضاء وقدر؟

تحقق الشرطة مع من حوله، ولا سيما صديقه المقرب «إياس» وصديقة عائلته «لين» وزوجته «ريما» ووالدتها، لتتكشف من خلال الرواية التي تدور أحداثها في يوم واحد مفاجآت غير متوقعة ومجتمعاً يخفي أكثر مما يظهر. زاد من الإحساس بعناصر التشويق في الرواية لغة السرد التي اتسمت بإيقاع سريع، وخاطف أحياناً، برغم تركيزها على الهواجس الباطنية للشخصيات، وكيف يرتدي البعض أقنعة الصداقة بحثاً عن وهم الحب والانتظار، وهو يصارع عالماً مضطرباً في زمن ذبلت فيه الحرية إلى حد الموات.

من أجواء الرواية، نقرأ:

«لم أحتمل البقاء بمفردي، كان شعوري بالوحدة مضنياً مع أنني كنت معتادة على أداء دور العاشقة التي تبقى في الظل وأصبحت أجده دوراً مريحاً بالنسبة إلى فتاة مثلي ترهقها مسؤولية الزواج، لكن قرار يوسف بالسفر برفقة ريما بدا خديعة وكنت أتقبل فكرة موته أكثر مما أتقبل فكرة سفره معها. وجود إياس إلى جانبي في أثناء العشاء خفف عني ثقل الوداع، وشعرت ما إن تركته على مقربة من المنارة بحاجتي إلى الآخرين. لم أشأ أن أعود إلى الغرفة التي أسكن فيها، بعد خطوات قطعتها بمفردي شعرت بأني متخمة بوحدتي وكنت قادرة على التخلي عن أوهامي بحاجتي إلى العيش منفصلة عن أمي وأبي، لكن لم يعد لدي طاقة على خداع نفسي ولم أشعر بوجود مرار يفوق مرار الوقوف مقابل البناية حيث أعيش بمفردي حتى وأنا أراقب العتمة داخل المبنى أدركت أن داخلي أصبح معتماً.

خاب رجائي، دائماً أجد الأخريات أمامي في واجهة العلاقات. ربما عدم تسرعي بالتفكير بالزواج وعدم إعطاء الارتباط أولوية جعلاني أظهر متساهلة في علاقاتي، أنا فتاة لا تندب حظها، كنت أحب أن أعيش بلا تعقيدات وما أشعر به كنت أسعى إلى تحقيقه لكن جمال هيئتي ترك في داخلي شعوراً مريراً بالوحشة. ما إن غادرني إياس حتى شعرت أني مستاءة من وحدتي لا من إياس ولو أن في ضعفه الذي يصدره عن نفسه مسوغاً لمن يعرف حقيقة صلابته كي يستاء منه، لكنني لم أستأ لأنه تركني من غير أن يقترح إيصالي إلى سكني إذ أعرف ارتباكه تجاه النساء. كنت مستاءة من وحدته بقدر ما كنت مستاءة من وحدتي».


الأدب في موازين السوق الحرّة

الأدب في موازين السوق الحرّة
TT

الأدب في موازين السوق الحرّة

الأدب في موازين السوق الحرّة

كالعادة، وكما هو متوقّعٌ منه كلّ سنة، لم يتأخّرْ تيري إيغلتون Terry Eagleton، المشتغل في حقل الأفكار العامة والدراسات الثقافية، في طرح نتاجه الذي صار واحداً من تقاليد منشورات جامعة ييل الأميركية المعروفة بسطوتها النخبوية. لم أتأخّرْ كعادتي في قراءة مقدّمة الكتاب الجديد لإيغلتون الذي اختار لكتابه عنوان الشيء الواقعي: تأمّلاتٌ في شكل أدبي

The Real Thing: Reflections on a Literary Form

والكتاب حديث النشر من مطبوعات جامعة ييل لعام 2024.

لستُ أبتغي هنا تقديم قراءة أو مراجعة للكتاب رغم أنني قد فعلتُ مع كتب سابقة لإيغلتون نشرتها جامعة ييل. حفّزني هذا الكتاب على التفكّر الحثيث في التاريخ الفكري لتطوّر الأدب ومتفرعاته (النقد الأدبي مثلاً) في سياق تطوّر السياسات (الدراسات) الثقافية على المستويين الشخصي والجمعي.

ويصلحُ إيغلتون ذاته مثالاً قياسياً للتغيّرات المتطرّفة التي صاحبت الحرفة الأدبية منذ سبعينات القرن الماضي حتى يومنا هذا. الرجل ماكينة عمل منتجة وخلّاقة، ولا أظنّه سيتوقّفُ يوماً عن العمل والإنتاج. السؤال هنا: ما طبيعة عمله اليوم؟ وكيف يتمايز عن أعماله السابقة؟

بدأ إيغلتون عمله في عصر ما بعد الحداثة التي تكاثفت غيومها فأمطرت مفاهيم جديدة مبشّرة بميتات عديدة (موت المؤلف مثلاً)، وخالقة لممارسات ثقافية غير مسبوقة، وناسفة للسرديات الكبرى. صارت الموضوعات الصغيرة التي يمكن توليفها في صورة كولاجية أهم بكثير من مقاربة السرديات الكبرى التقليدية (ولادة، حياة، موت، شيخوخة،،،،). تناغمت النظرية الأدبية في هذه الحقبة مع المستجدات الأدبية، وعدّل النقّاد الأدبيون من طبيعة عُدّتهم النقدية بما يتماشى مع الاشتراطات الجديدة. لم يخرج إيغلتون عن سرب النقد ما بعد الحداثي، وجاءت أعماله تطبيقاً متوقعاً لمواضعات ما بعد الحداثية في خريطة الأدب، رغم أنه (إيغلتون) حرص على تضمين أعماله جرعة آيديولوجية ماركسية الطابع، ربما يصح لنا توصيفها بالماركسية المتثاقفة.

حصلت الانتقالة الفكرية الثانية لإيغلتون مع انحسار أطروحات ما بعد الحداثة وشيوع الدراسات الثقافية بديلاً ممكناً ومقبولاً للنقد الأدبي. لم يعد مقبولاً في هذه الحقبة أن يُنْظَرَ إلى الأدب على أنه مملكة جمالية معزولة يمكن تشريح عناصرها باستخدام مبضع الناقد الأدبي (الكلاسيكي)؛ بل لم يعد وارداً الحديثُ عن ناقد أدبي في عصر الدراسات الثقافية. لم يعد الأدب خبرة شخصية محصورة في نطاق الرؤى الجمالية والاعتبارات البلاغية والألاعيب اللغوية والتبصّرات الفلسفية بقدر ما صار ميداناً اختبارياً لاشتباك عناصر مؤثرة في النسيج الفردي والمجتمعي على شاكلة: الذاكرة، الهوية، النوستالجيا، الهجرة، الإعطاب Trauma النفسية، النسيان، التابع والهامش في مقابل المركزيات المهيمنة. أظنُّ أنّ كتاب ما بعد النظرية After Theory (مترجم إلى العربية) الذي كتبه إيغلتون عام 2004 هو مرثية ضاجّة للنظرية الأدبية والثقافية (الكلاسيكية) مثلما فعل مع ما بعد الحداثة في كتابه أوهامُ ما بعد الحداثة. أراد إيغلتون في كتابه ما بعد النظرية تحقيق هدفين: الأول، تقديم مسح تاريخي لتطوّر النظرية الثقافية منذ ستينات وحتى تسعينات القرن العشرين، مع التأشير الواضح على ما رآه إيغلتون مكامن الإنجاز والعطب في تلك النظرية؛ أما الهدف الثاني فهو تأسيسُ نظرية ثقافية بديلة تستبدلُ بالتعامل مع الموضوعات (الأدبية) الكلاسيكية، موضوعات ثقافية جديدة جرى التعتيم عليها أو تغافلها من قبلُ، على شاكلة: الحقيقة، الموضوعية، النسق الأخلاقي، الثورة، الأصولية،،،. تداخلت النظرية الثقافية بكيفية عضوية مع النظرية الأدبية؛ وعليه صار في عداد البديهة العامة أن يستظلّ النقد الأدبي بظلال النقد الثقافي. لكن هل يوجد نقد ثقافي حقيقي؟ نحن سمعنا بالدراسات الثقافية. الحقُّ ليس مِنْ خلفية مفاهيمية تُعْلي شأن أي نقد سواء أكان أدبياً (كلاسيكياً) أم ثقافياً (في سياق الدراسات الثقافية). التسويغ هو أنّ واحداً من مرتكزات ما بعد الحداثة وما بعد النظرية هو الإطاحة بفكرة وجود ناقد أدبي أو ثقافي. هناك دارسٌ أو مشتغل ثقافي فحسب. إنّ فكرة الناقد، أيّاً من كان، تتأسّسُ على وجود مرجعية تقييمية كما مدرّس المدرسة الذي يُعهد إليه أمر ترتيب الدارسين في توزيعات تمييزية طبقاً لإنجازاتهم المدرسية. الأدب أو الثقافة ليس مدرسة أو جامعة، ومن غير المنطقي أن يلعب فيها الناقد دوراً مرجعياً. المرجع هو القارئ. أنت تقرأ وترى ما قد يكون ملائماً ومتناغماً مع ذائقتك الأدبية والثقافية بعامة. لستَ في حاجة لوسيط مرجعي من أي لون أدبي أو ثقافي. لن يقبل كثيرون بهذه التخريجة وبخاصة مَنْ تحصّلوا على شهادة الدكتوراه في النقد الأدبي. سيرون في هذا تغييباً لمكانتهم الأكاديمية وانحساراً لأدوارهم على الصعيدين الجامعي التخصصي والثقافي العام؛ لكنّ هذه بعض تشكّلات عصرنا وما يستلزمه من تبدّلات. ماذا سيفعل أطباء الأشعة مثلاً لو بلغ الذكاء الاصطناعي طوراً صار قادراً فيه على تشخيص الأمراض عبر قراءة الصور الشعاعية بأفضل مما يفعل الأطباء الممارسون؟ لا مفرّ من أن ننقاد إلى قوانين العصر ومتطلباته، وأن نُغلّب المصالح العملية على الآيديولوجيا أو التقاليد الكلاسيكية غير المنتجة.

يبدو أنّ قوانين السوق الحرّة لم تعُد تقبل المكوث في النطاقات الاقتصادية؛ بل امتدّت إلى عالم الأفكار. حتى الدراسات الثقافية ما عادت غطاءً مقبولاً لكي يستظلّ الأدب (والنقد الثقافي) بظلّه. تعاظمت الدعوات للتعامل مع الأدب كمنتج سلعي مطروح في سوق حرّة، ودينامياتُ هذه السوق هي الفاعل الوحيد الذي يجب العمل على جعله مسباراً لفرز الأعمال من حيث مقروئيتها. المقروئية صارت هي العنصر الحاسم في تحديد مكانة الكاتب والكتاب، والـ(بست سيلرز Best Sellers) هي المؤشر الوحيد على المكانة، وكلّ ما عدا قوانين السوق الحرّة لن يكون سوى كابح اصطناعي مشابه للقوانين التقييدية في الدولة الشمولية التي هي العنوان الشامل للأدب الأورويلي Orwellian Literature (إشارة إلى جورج أورويل). هكذا تمّ تحييد الناقد الأدبي والثقافي عبر تحطيم فكرة المرجعية الأدبية والثقافية أولاً، ثمّ بمدّ سياسات السوق الحرة إلى ميدان الأدب والاشتغالات الثقافية.

جرّبتُ بنفسي اختبار هذه الحقيقة. الاختبارُ في غاية اليُسْر: سأعملُ على البحث في أمازون على الكتب الجديدة التي تنتمي لحقل النقد الأدبي في القرن الحادي والعشرين. كثرة المنشورات في حقل معرفي دلالة مؤكّدة على شيوع ذلك الحقل وسطوته في حياتنا السائدة. مصداقُ ذلك مثلاً أنّ أحدنا لو جرّب البحث في أمازون عن كتب في الذكاء الاصطناعي لانهمرت عليه شلالات من العناوين في شتى حقول الذكاء الاصطناعي بحيث سيُدفعُ المرء دفعاً لتخصيص نطاق بحثه وحصره في نطاق ضيق، كأن يكون أخلاقيات الذكاء الاصطناعي مثلاً. عندما مضيت في تجربتي مع النقد الأدبي في القرن الحادي والعشرين ظهرت لي - كما توقّعت - عناوين محدودة، منها مثلاً: النقد الأدبي في القرن الحادي والعشرين: إعادة بعث النظرية

Literary Criticism in the 21st Century:

Theory Renaissance

هل لاحظتم العنوان الثانوي؟ إعادة بعث النظرية. هذه إشارة إلى أنّ النقد الأدبي (والنظرية الثقافية) توارتا تحت غطاء ثقيل فرضته حالة عالمية لا يمكن ردّها (هي العولمة الاقتصادية وقوانين السوق الحرة). هل سينجح مؤلف الكتاب في بعث أمجاد النظرية أو على الأقل جعلها تتواءم مع المتطلبات المعاصرة؟ لا أظنّ ذلك.

ربما ميدانٌ آخر هو مصداق إضافي على وضع النقد الأدبي والنظرية الثقافية في حياتنا الفكرية العامة، ذاك هو ميدان النشر. كان باب النقد الأدبي أحد الأبواب الرئيسية في المطبوعات الثقافية العالمية، صحفاً ومجلات ودوريات ومنشورات جامعية محكّمة ومراجعات الكتب. اليوم قلّما نجد عنواناً فيها تحت لافتة النقد الأدبي. مراجعات الكتب هي الطاغية، وحتى المراجعات هي أقرب لعروض حيادية لا تنطوي على أي جهد تقييمي. واضحٌ أنّ المراجعات تأتي في سياق السياسة الترويجية للكتاب وليس في سياق تقييم نقدي له. دور النشر صارت إمبراطوريات مالية عظمى، وليس من اليسير مواجهة سياساتها أو الكتابة بما يسيء إلى منشوراتها. نحن في سوق حرّة للأدب، معيارها هو المال المتحصل من بيع الكتاب الذي صار سلعة حقيقية - وليس رمزية فحسب - وسياساتها هي تعظيم مقروئية الكتاب عبر الترويج الممنهج له. كلّ ما يعرقلُ سياسة الترويج هو عنصر معطّل لسياسة السوق الحرة ويجب كبحه وإخراجه من اللعبة الأدبية.

لا أعرف كيف يصف إيغلتون نفسه اليوم. بدأ ناقداً أدبياً ماركسياً، ثمّ مُنظّراً ثقافياً، ثمّ مشتغلاً في حقل الأفكار العامة، وهذا ما تشي به عناوين سلسلة منشوراته السنوية في جامعة ييل الأميركية، ومنها كتابه الأخير عن الواقعية. أظنّه يقضي أيامه اليوم وهو مسكون بحنين لا ينقطع إلى سنوات سابقة كان فيها الأدب أبعد ما يكون عن سيف قوانين السوق الحرة؛ لكنّ الحظ شاء له أن يعيش ليشهد ما لم يتوقّع أن يشهده يوماً حتى في أقسى كوابيسه.

ليس لك يا إيغلتون، وليس لنا معك، سوى أن نتجمّل بالصبر ونرى إلى أين سينتهي الأدب في سوق حرّة متغوّلة. لم يعد مقبولاً في هذه الحقبة أن يُنْظَرَ إلى الأدب على أنه مملكة جمالية معزولة يمكن تشريح عناصرها باستخدام مبضع الناقد الأدبي (الكلاسيكي)


«الأديب الثقافية»: جناية أدونيس وعلي محمود خضير على السيّاب

«الأديب الثقافية»: جناية أدونيس وعلي محمود خضير على السيّاب
TT

«الأديب الثقافية»: جناية أدونيس وعلي محمود خضير على السيّاب

«الأديب الثقافية»: جناية أدونيس وعلي محمود خضير على السيّاب

صدر العدد التاسع من مجلة «الأديب الثقافية»، وهي مجلة «ثقافية فصلية تُعنى بقضايا الحداثة والحداثة البعدية»، وقد تضمنت مناقشات ومحاور وحوارات مختلفة، فقد جاءت «افتتاحية العدد»، بقلم رئيس التحرير بعنوان «نحن دولة بلا أمة أم أمة بلا دولة؟»، وفيها يوجِّه انتباه القارئ العربي إلى أن دال الدولة ودواله، بمعنى التحّوّل والزوال، يرتبط بخيارات الدولة - الأمة في التحَرُّر من الآيديولوجيات القومية والدينية، حيث لم تعد القومية العربية «رابطة قوية»، بل وأخفقت في كيفية تمثيل ذاتها النهضوية، ليس لـ«أنها مرحلة وليس نهاية»، وإنما لـ«أنها ذات طبيعة شعبوية ومعادية للديمقراطية، حتى التاريخ لم يعد (رابطة مشتركة) للجغرافيا كوعاء سياسي للتاريخ المشترك»، ويتساءل الكاتب في مهاد صريح: إذن فماذا تبقى من خيارات الدولة والأمة؟ أنحن إزاء أزمة مركبة من الدولة اللاأمة والأمة اللادولة؟».

وفي حقل «مناقشات»، تعرّض الشاعر والناقد والمترجم عبد الكريم كاصد في باب «نقد التحقيق» لـ«جناية أدونيس والكاتب علي محمود خضير على السيّاب»، حيث تساءل: «ألم تستوقف أدونيس، وهو يقدم أعمال السياب، الطريقة التي جُمعت بها أعمال السياب؟ ولعل الأدهى من ذلك هو ما نسبه المحقق من قصائد إلى السيّاب، وهي لغيره من الشعراء، من دون أن يتحقق من ذلك»!!

ويرى الناقد كاصد: «لم يخلص المحقق لأعمال السيّاب الشعرية الكاملة، لا توثيقه لها، ولا فيما أضافه إليها»، ويتساءل أيضاً: «إن لم يكن التوثيق شاغل المحقق الرئيس؛ فما هو الجانب الفني الذي استدعى كل هذا الركام العجيب من القصائد التي أضيفت إلى ركامات سابقة؟».

ولعل الأكثر إشكالية من ذلك كله «لم نعرف مثلاً الظرف الذي دفع السياب وجماعة (مجلة الشعر) إلى المشاركة في (مؤتمر الأدب العربي المعاصر) المنعقد في روما سنة 1961، برعاية (المنظمة العالمية لحرية الثقافة)، وبتمويل الاستخبارات الأميركية، كما كشفت عن ذلك مجلة «نيويورك تايمز» في مقالاتها الخمس بعد سنة 1966، كما لم نعرف ردَّه على ما أورده عيسى بلاطة من أن السياب ادّعى أن بعضاً من شعراء (مجلة شعر) سكروا وقصفوا بمبلغ العلاج الذي أمده به عبد الكريم قاسم».

وتسعى هذه المناقشات التي قدمها الشاعر والناقد عبد الكريم كاصد إلى استنطاق المسكوت عنه من وجهة نظر نقدية وانتقادية صريحة لأدونيس الذي تبنى هذه النسخة المحققة، وقدّم لها بكل ما تتضمن من أخطاء وتشوّهات ومغالطات.

وفي حقل «محور الفلسفة»، فتحت «الأديب الثقافية»، ضمن خطتها المقرّرة لملفات عام 2024، ملف «تراجع الفلسفة في عصر التحوّلات المعرفية المعاصرة»، بوصفها إشكالية معرفية تنطوي على مشكلات عدّة، على نخبة من الأكاديميين والمثقفين العراقيين، للنظر فيما آلت إليه الفلسفة العربية الآن، وما ستؤول إليه في المستقبل، وفق أربعة محاور على النحو الآتي:

تراجع الفلسفة في عصر الذكاء الاصطناعي/ تراجع الفلسفة في عصر التحوّل الرقمي/ تراجع الفلسفة في عصر تداخل الاختصاصات/ تراجع الفلسفة في عصر الواقع الافتراضي.

وقد أسهم في هذه المحاور: د. سعيد عدنان/ د. علي المرهج/ د. سنا صباح علي/ د. رائد عبيس/ د. إنصاف سلمان علوان/ عباس عبد جاسم.

وقدّم د. قيس كاظم الجنابي بحثاً في «اللون والجسد في لوحات يوسف الصائغ»، حيث رأى أن ما يرسمه الصائغ يقع خارج المدارس التشكيلية، وخارج قوانين الرسم، إلاّ أن الألوان المعتمة كالأسود والأزرق تشكل موضوعاً لهاجس داخلي، وشعوراً بالأزمة النفسية التي تعصف به.

وفي حقل «حوار»، حاور الأكاديمي أيهم العبّاد؛ الشاعر والناقد د. علي جعفر العلاق. وفي حقل «ثقافة عالمية»، قام الكاتب والمترجم المغربي عبد الرحيم نور الدين بترجمة حوار مع الناقد والفيلسوف وعالم اللسانيات جورج شتاينر. وتضمن حقل «نصوص»، «ثلاثية المجون الخدرة»، وهي مسرودة ممسرحة للكاتب شوقي كريم.

وفي حقل «تصوير»، كتب الفنان الفوتوغرافي المغربي أشرف بزناني سيرة ذاتية بعنوان «تحرير الخيال من قيود الواقع»، حيث شرح فيها تجربته في التصوير الفوتوغرافي، وكيفية تنشئة صور تتحدى الواقع وتثير اللاوعي.

ويبتدئ العدد من حيث ينتهي بـ«نقطة ابتداء» التي كتبتها د. هاجر سالم الأحمد بعنوان «تنافر القيم في الأدب الأزرق» الناتج عن التعارض بين الأدب والعالم المعلوماتي والرقمي، وكيف تتصدر موسيقى «الترند» الحركة الأدبية متفاعلة مع الوسط الاجتماعي لـ«الميديا».

وتصدر «الأديب الثقافية» بطبعتين ورقية وإلكترونية في آن.


«شَعري المجعّد»... رواية أنغولية عن النساء والهوية والوطن

«شَعري المجعّد»... رواية أنغولية عن النساء والهوية والوطن
TT

«شَعري المجعّد»... رواية أنغولية عن النساء والهوية والوطن

«شَعري المجعّد»... رواية أنغولية عن النساء والهوية والوطن

عن دار «العربي» بالقاهرة، صدرت رواية «شعري المجعّد» للكاتبة الأنغولية، جاميليا بيريرا دي ألميدا، ترجمة فاطمة محمد. تدور الأحداث بضمير المتكلم، وتتنقل ما بين أنغولا والبرتغال التي هاجرت إليها الراوية بصحبة أبيها عندما كانت سنها 14 عاماً.

والرواية هي نص قصير «نوفيلا» تقع في 138 صفحة من القطع المتوسط، ويتحرك إيقاعها السردي فيما يشبه كتابة اليوميات؛ بلغة بسيطة وحس تهكمي ساخر، على لسان شابة سمراء أفريقية تجعل من شكل شعرها وطرق تصفيفه مدخلاً لمناقشة قضايا أكثر عمقاً، مثل الهوية ومعنى الوطن وغربة إنسان العصر، فضلاً عن الصور النمطية لدى الأوروبيين عن سكان أفريقيا.

وتركز الكاتبة على مناقشة الأجواء الحميمة لجلسات النساء ونقاشاتهن داخل صالونات تصفيف الشعر، أو محال «الكوافير» بشكل يميل للمرح وخفة الظل.

تهدي المؤلفة الرواية إلى شخص يدعى «أومبرتو» قائلة فيما يشبه مقدمة عامة: «يشبه شعورنا بالامتنان لوجود الوطن الامتنان لأن لدينا ذراعاً، فكيف نكتب إذا فقدنا ذراعنا؟ إن الكتابة بقلم رصاص عالق بين أسناننا هي إحدى وسائلنا للهروب من تبعات الكتابة». وتضيف: «الواقع إن البحث عن إجابة للسؤال: مَن يهتم بما نكتبه؟ من شأنها أن تربت على قلوبنا قليلاً، وتدفعنا إلى تصور أن ما نقوله رغم كل شيء مهم. ومع ذلك، فإن التسويف فيما نريد قوله هو أحد أشكال العمى والصمت اللذين سوف يجتاحان حياتنا، تماماً كما كانت مارغريت ثاتشر تخشى أن يجتاح المهاجرون الثقافة الإنجليزية».

ولدت جاميليا بيريرا دي ألميدا عام 1982، وحصلت على شهادة في الدراسات البرتغالية من كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بجامعة «نوفا دي لشبونة» بالبرتغال، ودرجة الماجستير في نظرية الأدب 2006، ودكتوراه في الدراسات الأدبية من كلية الآداب جامعة لشبونة.

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«من أسوأ مصففات الشعر اللاتي قابلتهن على الإطلاق امرأتان كونغوليتان في سوق (موراريا) التجاري، أحقاً كانتا قبيحتين للغاية أم أن المسافة هي ما غيرت شكلهما؟ وجهاهما مقشر من صابون (ميكاكو) وهو صابون مطهر يستخدم لتفتيح البشرة. جدلتا شعري بسرعة خلال أربع ساعات، وأخذتا مني ثروة من المال، ونظرتا باحتقار إلى صديقي الأبيض الذي ذهبت معه إلى هناك. سوف تتساقط الضفائر الأولى والثانية بعد ساعات بمجرد أن تصفف. كانت الكونغوليتان من أسرة الرجل الذي أهانني في الشارع، قائلاً إنه تعلم حب البيض من والدتي، وهذا ما سيدمر لشبونة إلى الأبد. لقد تعلمت في الصغر قول (تاتا نزامبي) التي تعني (يا إلهي) بلغة (اللينغالا) وهي عبارة كررتها أمي كتعبير لما يحدث لي في هذه اللحظات.

تعلمت معها أيضاً ربط أوشحة الرأس كما فعلت في سن الثامنة من الذاكرة، ودون أن أجربها من قبل قط. في اليوم الذي ارتديت فيه زياً أفريقياً لحضور حفلة مدرسية، حملت دمية على ظهري، وارتديت سترة بنية، يا لها من معجزة أن يتنكر شخص في زي هويته نائياً بذاته عنها، أو يصبح شخصية أخرى. هل أنا من قلت إن الكرنفال انتهى ذات يوم في حياتي؟ لقد كانت فكرة ميمونة أنه ربما هذا هو القناع الوحيد الذي أستطيع الكشف عنه، من مسافة تفصلني عما أنا عليه الآن. لم أصبح السيدة الأفريقية التي تنكرت في زيها ذلك اليوم؛ لكنني سأصير يوماً ما بالتأكيد تلك السيدة. أتذكر اللحظات العابرة التي علمتني أشياء مهمة، وأنا أشاهد النساء اللاتي مررن في حياتي يرتدين الملابس ويضعن المساحيق أو يبحثن عن أغراضهن الشخصية».


من الشعر الأرسطي إلى بؤس البنيوية!

شكري عياد
شكري عياد
TT

من الشعر الأرسطي إلى بؤس البنيوية!

شكري عياد
شكري عياد

في بداية شهر مارس (آذار) 1993، كنت أسكن في فندق جورج الخامس بباريس، عندما فوجئت بقدوم المتفلسف العربي الضخم عبد الرحمن بدوي - رغم تحذيري المسبق من عدم استجابته - مستجيباً لدعوة عاجلة بإجراء حوار تلفازي معه، حيث لم تجرِ معه مقابلة تلفازية من قبل ومن بعد... لوهلة تصورته مستشرقاً ألمانياً! لمَ لا؟ وهو المعجب بالفلسفة الألمانية، ويعدّ هيغل أستاذه الأول. وعن وجوديتها كانت أطروحته للدكتوراه بإشراف الشيخ مصطفى عبد الرازق.

عبد الرحمان بدوي

بعد تطواف بين جامعات القاهرة وبيروت والكويت وبنغازي وطهران، قضى سنواته الأخيرة بباريس في غرفة صغيرة في فندق متواضع، ومنه كان يشق طريقه اليومي إلى المكتبة الوطنية، التي فتحت له خزائن مخطوطاتها دون سواه، فهو العاكف - خاصة - على إحياء التراث اليوناني حيث عمل على تحقيق ونشر مخطوطات أرسطو؛ العربية واليونانية، ومنها تحقيق كتاب «فن الشعر» لأرسطوطاليس مع الترجمة العربية القديمة وشروح الفارابي وابن سينا وابن رشد، سنة 1953.

بعد مقابلتي إياه بعامين، نقلت إلى د. شكري محمد عياد، في مقابلة تلفازية أخرى، ما قاله إنه كان أسبق منه في ترجمة الكتاب، وإن عياد قد أفاد منه دون ذكر لذلك.

فأجابني: «على ما أذكر، فإن كتاب عبد الرحمن بدوي قد صدر بعد أن انتهيت من رسالتي، حيث قدمتها لكلية الآداب للمناقشة في سبتمبر (أيلول) 1952، وكانت مناقشتها الفعلية في أكتوبر (تشرين الأول) 1953، 13 شهراً بين التاريخين، وخلال هذه المدة ظهر كتاب عبد الرحمن بدوي، الذي أحترمه جداً وأقدّره وأعدّه من أنشط الكتّاب، وقبل صدور كتابه قابلته عدة مرات، وكان يعرف أنني أبحث في كتاب الشعر، وكنت أعرف أنه يعدّ أيضاً كتاباً يجمع فيه هذه النصوص، ولا بأس أن أقول إنه أخفى عني معرفته بنصّ الفارابي، لأنني في كلامي عن الفارابي اعتمدت على نقولٍ عنه في كتبٍ متأخرة، إنما وجد هو له نصاً نشره أحد المستشرقين في تلخيص صغير لكتاب «الشعر».

وحين كررت على عياد: «لكن بدوي يقول إنك قد أخذت منه!»، أوضح: «الكتابان موجودان... لا أنا ولا هو بدأنا بنشر ترجمة (متى بن يونس)، لأن هذه الترجمة نشرها المستشرق البريطاني مارجليوث في القرن التاسع عشر، ونشرها بعد ذلك في الثلاثينات مستشرق ألماني اسمه ياروسلاف تكاتش، وكلانا كان يعرف هذين العملين، وأنا أشرت إليهما محللاً عمل مارجليوث وتكاتش في مقدمة رسالتي، ولا أظن أن عبد الرحمن بدوي قد صنع هذا، كما أنه كتب مقدمة عن قيمة كتاب الشعر الأرسطي، ونشر ترجمته الحديثة، وكتب تعليقات عليها، وهذا ليس من الصعب الحصول عليها من كتب النقد الأدبي القديم، وألحق بها النصوص العربية لـ(متى بن يونس)، ثم تلخيص الفارابي، ثم تلخيص ابن سينا، ثم تلخيص ابن رشد، أما أنا فقد وضعت ترجمة (متى بن يونس) بالتوازي مع ترجمة عربية حديثة حتى يظهر الفرق بين الاثنين، لكن إضافتي الحقيقية كانت دراسة تاريخ الكتاب في الثقافة العربية، بينما درس هو تاريخه في الثقافة الأوروبية في مقدمة الكتاب، ثم أورد النصوص العربية كما هي». وأضاف: «ذكرني هذا الأمر، عندما انتهيت من الدراسة، وعُرِفت في البيئة الجامعية، سمع عنها طه حسين، وطلب أن أذهب إليه، فذهبت إليه ومعي نسخة، فسألني هذا السؤال الصريح: هل عملك أفضل أم عمل عبد الرحمن بدوي؟ فسكتُّ قليلاً ثم استنجدت بكل شجاعتي، ثم قلت له: عملي أفضل، ثم عددت له الأسباب لقولي ذلك، وهذا ليس لأنني أفضل من عبد الرحمن بدوي، بل إنني أعتقد أنه أعلم وأفضل وأذكي مني، إنما أنا أشدّ إخلاصاً وتفانياً للعمل الذي أريد أن أقوم به».

طه حسين

تأثر العياد بأمين الخولي

انضم شكري عياد إلى قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة فؤاد (جامعة القاهرة) مفتوناً بسحر شخصية طه حسين، الذي أحدث دوياً هائلاً بين أروقتها إثر صدور كتابه «في الشعر الجاهلي» 1926 غير أن عياد تأثر بمن درّسه على مقاعد الدراسة الجامعية؛ الشيخ أمين الخولي في البلاغة والتفسير، فمشرفاً على رسالة تلميذه للماجستير في البلاغة العربية «يوم الدين والحساب» سنة 1948، ثم إشرافه على أطروحته للدكتوراه، تاركاً أثره على تلميذه النجيب، بمحاضرته في الجمعية الملكية الجغرافية سنة 1931 عن «البلاغة العربية وأثر الفلسفة فيها»، بالتزامن مع محاضرة طه حسين عن «البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر»، التي ألقاها في نفس العام في مؤتمر المستشرقين بلندن، وقد ذهب إلى أن الأثر الأرسطي يكاد يكون باهتاً أو معدوماً، حاصراً ذلك في تأثر قدامة بن جعفر في كتابه الثابت «نقد الشعر» وكتابه المشكوك فيه «نقد النثر» وتبين مؤخراً أنه لابن وهب... باعتبار ما قام به السريان العرب المسيحيون من ترجمة كتب أرسطو، خاصة كتابيه «فن الشعر» و«فن الخطابة»، بوصفهما كتابين في المنطق، حيث عكف السريان على نقلها لاستخدامها في مجادلاتهم الدينية، خاصة بعد مجيء الإسلام وانتشاره بين مسيحيّي الشرق.

من هنا، قام تراجمتهم، وفي طليعتهم متى بن يونس، بترجمة كتاب «فن الشعر» لأرسطوطاليس، الذي شكك ابن سعيد السيرافي في مناظرتهما أمام الخليفة المقتدر، بأنه لا يحسن الترجمة من اليونانية، رغم وجود روايات عن ترنم متى بأشعار هوميروس بأصلها اليوناني. وربما بسبب تسلل المنطق الأرسطي إلى بغداد العباسية في ذروة انفتاحها الفكري، وجدنا أبا نصر الفارابي يهتم بالفكر اليوناني ويؤلف عن «فلسفة أرسطوطاليس» و«الجمع بين الحكيمين» أي أفلاطون وأرسطو، وهما كتابان عُني بهما أستاذ كرسي الدراسات العربية بجامعة هارفارد العراقي د. محسن مهدي، الذي ألّف كتاباً عنه: «الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية»... وقد شهد ابن صاعد الأندلسي في كتابه «طبقات الأمم» للفارابي بالبراعة في صناعة الفلسفة، والتحقق بفنون الحكمة والاطلاع على أسرار العلوم، ليتقدم أبرع فلاسفة العرب (الكندي وابن سينا وابن رشد) في الاشتغال بكتاب «فن الشعر» وكتاب «الخطابة»، إذ استقاهما في بغداد من أستاذه المباشر متى بن يونس، ورغم ضياع نص ترجمة الفارابي المعنونة بـ«رسالة في قوانين صناعة الشعر» فإنه ترك أثره - ربما قبل ضياعه - على شرح ابن سينا في كتابه «البرهان من كتاب الشفاء»، الموسوم بوضوح نص أرسطو أكثر من التراجمة الأخيرِين، خمن ذلك بنقله المباشر عن الفارابي دون ذكر اسمه!

مترجمو العصر العباسي والباعث الديني

كان باعث المتكلمين العرب في العصر العباسي المتأثرين بفكر أرسطو، خاصة في كتابه «فن الخطابة»، باعثاً دينياً - كما هو الشأن مع السريان - لكن من جهة الإعجاز القرآني، بعدما ثار الجدل حوله مع نشأة الفكر المعتزلي، وهو ما جعل د. أمين الخولي في محاضرته المومأ إليها سنة 1931 يذهب إلى أن الإعجاز القرآني أثّر تأثيراً كبيراً في التأليف البلاغي لدى الرماني والخطابي، ليتجلى ذلك في مداولات المعتزلة حول مسألة الحسن والقبح العقليين، وقد أصبحت المقدمة المنطقية مدخلاً أساساً للبحث في علوم البلاغة للاستدلال على الإعجاز القرآني، وأصبحت الفلسفة لذلك متصلة بالبلاغة العربية.

فهل لذلك - يا ترى - يكمن توجه شكري عياد للاهتمام بكتاب «أرسطوطاليس في الشعر - نقل أبي بشر متى بن يونس القنائي من السرياني إلى العربي - حققه مع ترجمة حديثة ودراسة لتأثيره في البلاغة العربية»، الصادر سنة 1967، وقد أشاع أستاذاه طه حسين وأمين الخولي - كما بيّنا - أن البيان العربي منذ نشأته كان خاضعاً للتأثير الأرسطي، وأن الفلسفة اليونانية أثّرت في نشأة البلاغة العربية، حتى أصبحت مجرد أصداء لما أخذوه من كتابي أرسطو «فن الشعر» و«فن الخطابة»، في حين أن البيان العربي وقضاياه البلاغية قد تشكّلا قبل أن يعرف العرب كتابي أرسطو، إلا أن عياد لا ينفي قط تأثر البلاغيين العرب بالمنطق الأرسطي، كما وضح لدى عبد القاهر الجرجاني بنظرية النظم ووحدة الكلام في كتابيه «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة»، وحازم القرطاجني في كتابه «منهاج البلغاء» بوصف البلاغة علماً كلياً لعلوم الإنسان واللسان، والسكاكي في كتابه «مفتاح العلوم» الذي امتاز بتبويب البلاغة... لخّصه القزويني بعده في القرن الثامن الهجري في كتابه «الإيضاح في علوم البلاغة» الذي قرأناه على أستاذنا د. عياد في كلية الآداب جامعة الملك سعود، وقد تألقت تعريفات القزويني بالدقة المنطقية.

محاولة إنشاء علم جديد في الثقافة العربية

وقتذاك في منتصف السبعينات الميلادية، لاحظ عياد الفوضى البلاغية التي شاعت بين شباب الأدب والشعر، محاولين تحطيم كل بلاغة مأثورة بحثاً عن بلاغة جديدة، لذلك أقنع قسم اللغة العربية بتدريس مادة علم الأسلوب، محاولاً إنشاء علم جديد في الثقافة العربية، مستمداً من تراثها اللغوي والأدبي، على ضوء الدراسات اللغوية والنقدية في أوروبا وأميركا... ومؤلفاً في ذلك كتاباً رائداً، حين كان يرأس كرسي الأدب والبلاغة بجامعة الملك سعود لسنوات طوال.

غير أنه وجد نفسه محاصراً بالبنيوية في تحليل النصوص تحليلاً غامضاً مجرداً، لتعمل التفكيكية من بعدها على تحطيم كل الحدود التي تجعل للنص وجوداً متميزاً، مرجئة فهمه! وهو ما كشف عنه ليونارد جاكسون في كتابه «بؤس البنيوية» أن ما بدأته البنيوية بوصفها استراتيجية بحث عقلاني في أواخر العشرينات، انطوى على عيب أساسي، نشأ عما دعاه بـ«البؤس المنطقي» في نموذج اللغة الأساسي، وهو قصور في تفسير وقائع اللغة ذاتها، فما بالك بوقائع الأدب والمجتمع.

هكذا يتساءل جاكسون بوصف التأويل الأدبي والنقد التقويمي ممارستين اجتماعيتين، ويواصل: «إذا ما عرّفنا النقد بأنه تأويل عام ومترابط للأعمال الفنية المعقدة على نحو يجد قبولاً لدى كل من الفنان والجمهور، فإن من الطبيعي أن نتنبأ بأننا لن نعرف لوقت قادم أي نظريات مرضية تتناول هذا النشاط»، مؤكداً أن معظم الخطابات حول الأدب ليست نظرية أدبية أو بحثاً أدبياً، وإنما هو ضرب من التأويل والتقييم.

الموقف من البنيوية

هذا هو ما أصبح شغل د. شكري عياد الشاغل، كما بيّن ذلك في بحثه المتضمن كتابه «اتجاهات البحث الأسلوبي» المترجمة أبحاثه، حينما وصف مناهج البحث النقدي الجديدة بأشبه بطلاسم كهنوتية، من المحرم فهم قارئ الأدب لها! داعياً ألا يخدعه «ناقد ناقص الخبرة متعالٍ متعالم في استخدامه الأجوف لمصطلحات غامضة يزدردها دون فهم وإدراك ووعي، ما يخيف القارئ ويرهبه، فيبتعد كلياً عن النقد متهماً نفسه بالجهل، مفتقداً الاتصال بالنص الأدبي موضوع النقد».

وفي العدد الثاني من مجلة «فصول» سنة 1981، وضّح موقفه النقدي المخدوم بترسانة هائلة من القراءات المتعمقة في الإجراءات النقدية الجديدة، هذه التي سوّق لها «وكلاء» عرب على غير هدى، خاصة في دول المغرب العربي، ما قضى على تاريخ الذوق في النقد العربي... موضحاً في مقاله البحثي المعنون «موقف من البنيوية» أن البنيوية حاولت أن تقنن الأدب كنظام عقلي مجرد، ولكنها اصطدمت بالأدب كإنتاج يعبر عن حالة نفسية لإنسان العصر، وبينما نرى انتصارات الكمبيوتر تتوالى في ميدان العلوم الطبيعية، ودور الإنسان ينكمش في تشكيل الحياة، نرى الأدب الحديث والبنيوية ممثلين لهذا الأدب الحديث ومدافعين عنه، يقدمان للإنسان صورة جديدة من حلم العالم الآخر، ويفشلان كل الفشل في الوصول إلى أي قانون عام.


مفارقات الفكرة واللعب عليها... شعرياً

مفارقات الفكرة واللعب عليها... شعرياً
TT

مفارقات الفكرة واللعب عليها... شعرياً

مفارقات الفكرة واللعب عليها... شعرياً

في ديوانها «أراجيح الضوء» الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب، تحلّق الشاعرة التونسية ماجدة الظاهري في فضاء الذكريات والأمكنة والمدن، مستعيدة برهافة مخيلة الأماني المجروحة والأحلام الهاربة، التي أصبحت تكرر نفسها ويتردد صداها في حنايا الروح كمرثية شجية مفتوحة على تخوم البدايات والنهايات. يساعد في ذلك أن الديوان يفتت مركزية الضوء، فلا يشكل محور إيقاع ثابتاً للرؤية، إنما يتناثر في نسيج الصورة الشعرية على شكل مِزق وومضات لاهثة، تتأرجح في كل اتجاه. وتنعكس ظلالها بقوة على الذات الشاعرة التي تتأرجح بدورها ما بين الحلم بالماضي وواقع اللحظة الراهنة، مدركةً أن مأزقها الخاص عاطفياً وإنسانياً يكمن في هذه المسافة الرخوة بينهما، ومع ذلك لا تتمرد عليه، بل تتكيف معه كظل حارس لها، وحين تسامره وتلعب معه تضعه بين قوسي مفارقة تفوح منها رائحة التهكم والسخرية، لكنها مع ذلك، تستعذب استرجاعه من جراب الماضي واستدراجه والتمسح في غباره. تقول في نص بعنوان «فكرة عارية» (ص 18) موجهة الخطاب للحبيب الهارب:

«كأنكَ لا تعرف

أننا أفرطنا في الحلم

حتى نمنا في محارة

وتدحرجنا على الرمل

أشرنا إلى البحر أن يغني فغنى

رقصنا مع الموج

تحدثنا مع ضوء الفجر

فتحنا له الحكاية

من الجذور

وخلدنا لموسيقى السماء

في جسدينا.

كأنك لا تعرف

أن ما رسمناه

على وجه الماء

كان مقعدين فارغين

في جزيرة نائية

غرقنا وبقي المقعدان

شاهدي زور».

ومن ثم، يصلح مجاز «الفكرة العارية» ليشكل عتبة نقدية لقراءة هذا الديوان الواقع في 120 صفحة؛ فالتعري فعل صادم في إطار العرف الاجتماعي، وهو أكثر الحريات إثارة للجدل والجرأة، خصوصاً حين يتحول إلى فعل احتجاج ضد مظاهر سالبة في المجتمع، لكنه مع ذلك يظل مغوياً في إطار العلاقات العاطفية الخاصة الحميمة، ويبلغ ذروته الجمالية في الفن وبخاصة فن النحت، كما أن التعبير بالجسد يشكل إحدى مغامرات التجريب المسرحي المهمة؛ وفي مرآة الفلسفة تبرز جدلية الخفاء والتجلي، كإحدى الأفكار الرئيسية في النظر إلى قضايا الكون وحقيقة الوجود الإنساني في أبسط وأشد مظاهره وأبعاده وضوحاً وتعقيداً. وفي الشعر لا تتعرى الأشياء لتصبح أكثر وضوحاً، إنما لتصبح أكثر كثافة وغموضاً وتجسيداً لفضاء الفعل الشعري، بكل نزقه وشطحه وهذيانه.

بناء المشهد والصورة الشعرية

ينعكس هذا على عدد من نصوص الديوان، حيث تتحول الفكرة المجردة إلى سلاح للتأويل ينفتح على مجاز المشهد والحكاية، ويعلي من طاقة السرد بروح الشعر. يبرز هذا على نحو لافت في نص بعنوان «جنون»، يتأمل عالم «مستشفى المجانين»، ويركز على النساء المجنونات، يلتقط معاناتهن مع الحياة، ويرصد كيف تتحول مفرداتها وأشياؤها العادية، مثل «الحصول على سيجارة» إلى حلم شائك وسط غابة من القضبان والأسوار، وكما يقول النص:

«السيجارة الآن بين شفتيها

السيجارة الآن تطلق جناحيها

تدخنها بصمت

وبصمت ترسم بدخان السيجارة

أشياءَ لا يفهمهما أحدٌ آخر

وشخوصاً لا يعرفها أحدٌ غيرها

وعوالمَ لا تحتاج إلى مستشفى»

الملاحظ هنا أن النص يعتمد في بناء المشهد والصورة الشعرية على آلية التكرار لألفاظ بعينها ذات دلالة خاصة (القضبان، الجنون، السيجارة)، ليعطي إحساساً بثقل الحالة ووطأتها الإنسانية. وفي الوقت نفسه، يكشف كيف تتحول اللغة بين هؤلاء المرضى والحياة من أداة للتواصل والمحبة إلى سلاح للشتائم والسباب... «وتنطلق الشتائم من النافذة/ الشتائم واللعنات لا تبالي بالقضبان/ كل العالم عليل/ اللعنة على هذا العالم بأسره».

في غبار كل هذا يكشف النص عن مفارقة شديدة الحيوية، حيث يتحول الجنون بالحياة وبالحب إلى طقس ولغة سرية، يصفو فيهما الجسد لكينونته، متخلصاً من شوائب الحياة ومعاناة المرض، كأنه مغمور بينابيع أخرى للعلاج:

«نزعتْ عنها ثوباً يشبه قشرةً

وكمن يلتفُّ براية بعد فوزه في سباق

لفَّتْ جسدها النحيلَ بفستان فضفاض

ثم،

رفعتْ فوق رأسها السابحِ في دخان السيجارة يديها

ورقصتْ، رقصتْ، رقصتْ

ثم غنتْ: أنا أحببتك

أحببتك

أيها المجنون... أنا أحببتك

أحببتك حدّ الجنون»

اللعب على المجازات

ينوع الديوان طرائق المجاز، ويفتح له مجالات إدراك ورؤى لا تخلو من الجِدة في كثير من النصوص، فيقفز من مجاز الداخل الساكن الممسوس بالشوق الدائم لكسر رتابة العادة والمألوف، إلى مجاز الخارج الضاج بالحركة حد الفوضى والجنون. كما يوسع من فضاء النص باستدعاء شخوص من عباءة التراث والأساطير بعدّها رموزاً وعلامات فارقة قادرة على إشاعة حيوية التناص في القصيدة، والاشتباك مع الواقع الراهن ومنها «زوربا، وفينوس، وروزا لوكسمبورغ». تعي الذات الشاعرة أن هذه القفزة، ليست مجرد خبط عشواء، إنما هي إفراز حالة من التأمل والرصد العميق لتحولات العناصر والأشياء، وما يجري في الواقع والعالم من حولها. فـ«فينوس» إلهة الجمال عند الرومان تصارع القطط والكلاب لتجد ما تقتاته في المزبلة، وزوربا لا يزال يواصل رقصته الشهيرة وسط الثلوج، وروزا لوكسمبورغ، شهيدة الثورة الألمانية لا تزال تحرض الثوار ضد النازيين والإرهابيين الجدد. كما تعي شكل انعكاس كل هذا على مرآتها الخاصة. لذلك في مقابل متاهة العالم والواقع لا تعتصم الذات الشاعرة فقط بقصيدتها، إنما تحاول من خلالها الوصول إلى حكمة ما، فيما وراء هذا الجنون الذي جعل الحياة غابة مليئة بأزهار الشر والكراهية والسموم. فمن الطريق تعلّمتْ حكمة المشي وفلسفته، وتعلمت خيانته أيضاً، ومن خلال هذه الحكمة المرتجاة تحاول الوصول إلى أمنها الداخلي وشاطئها الخاص، حينئذ يمكنها مواجهة الموت وملاطفته شعرياً ليس بوصفه لغزاً للحياة، إنما ابنها الضال، في متاهة الحروب والكوارث والنكبات... تقول في نص بعنوان «دعوة حب - ص 56»:

«ماذا لو ندعك طين البداية

بوميض الحنين وندى الأصوات البعيدة

وعرق الخزافين

ماذا لو نشكلها جِرارا

ندسُّ فيها فاكهة العشاق

نصفِّفها على باب مدينتنا

نفتح في الليل معابرَ الطين

ندعكه حتى يكاد ينفث الماء نوافيرَ

ونطيل المشي بين أقواس الفراغ

ندس فيها ثمالة بهجتنا

ندلُّ التائهين إلى جرارنا عند الباب

لو اهتدوا نعيد إليهم ظلالهم الكسيرة

نغني... ونمشي على خيط شفيف».

هذا السؤال المشرّب بالروح الشعبية، ونوازع شتى للأمل والرجاء وإعادة تشكيل البداية من جديد بطينة الحب، يحقق تصاعداً ونمواً فنياً لافتاً في بعض قصائد الثلث الأخير من الديوان، التي يغلب عليها القصر نسبياً، وبخاصة قصائد «هروب/ هذه أنا/ أمسية شعرية/ ضحكة/ أمي/ ريح»، حيث تتخلص الصورة الشعرية - إلى حد كبير - من مجاز الحكاية بصورته النمطية المترهلة، ومفارقاته المجلوبة من الخارج، كما تتخلص من ضجيج التكرار والأنا الشاعرة المتعالية في فضاء المشهد «أنا التي لا تشبه إلا أنا/ أنا الصخرة والينبوع، الجريان والحقول/ أنا النورس يحرس الآفاق». وترتقي إلى مجاز الحالة، المفتوح على حدوسات معرفية وجمالية مباغتة. تتناسل من نسيج النص نفسه، وبحيوية شعرية تجعله مفتوحاً على براح الخيال والحواس... تقول لشاعرة في قصيدة «ضحكة - ص 108»:

«أرسلت له ضحكتي

تأبّطها وركضَ كمجنون

عثر على رغيف ساخن

بعد جوع طويل انزوى بها في آخر الشارع

كلما قضم منها قليلا

تطايرت فراشاتٌ كثيرةٌ

ابتلعها وأغمض عينيه

رقصَ

طوقته الفراشاتُ

وتمادي في

الـ .. ر.. ق .. ص».

برغم الدفقة الرومانسية التي يشي بها هذا النص، فإن مجاز الحالة يحوِّلها إلى طقس، وهي سمة لافتة في الديوان، فالقبلة الخاطفة تصبح فعل وجود تماماً كالخبز، والرقص يصبح فعل حرية، لا يستثير الفراشات فحسب، إنما يكشف عن الطاقة الكامنة في النص، وقدرته على خلق نوافذ جديدة للجمال من أبسط الأشياء ألفة وعادية.

تبقى خلاصة هذه الإطلالة على هذا الديوان الشيق، في أن مجاز «الأفكار العارية» لا يعني أن تعيش عارياً تحت هالة من الضوء، تسلطها عليك أحلامك ورغباتك المقموعة، إنما يعنى بالأساس أن يتحول النص الشعري إلى مرآة للذات الشاعرة والقارئ معاً.