محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

لا تعتمدوا على الولايات المتحدة ولكن جاملوها!

سوف أترك مقالي اليوم لشخص آخر هو البروفسور إيمانويل والرشتاين، وهو أستاذ أميركي يشغل منصب كبير الباحثين في جامعة يل الأميركية الشهيرة، وله كتابات معمقة في العلاقات الدولية، وخصوصا كتابه الموسوعي «النظام العالمي الحديث». السيد والرشتاين ألقى محاضرة مفردة في نهاية اليوم الثاني من أعمال ندوة «مجلس التعاون الخليجي: السياسة والاقتصاد في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية»، وقد نظمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، وحضرها جمع وافر من المهتمين والمختصين والرسميين، وانتهت قبل يوم واحد من انعقاد القمة الخامسة والثلاثين لمجلس التعاون الخليجي في الدوحة.
ما سوف أعرضه هو الأفكار العامة للمحاضرة، التي قد أتفق مع بعضها وقد أختلف مع البعض الآخر، إلا أن عرض تلك الأفكار في هذه المرحلة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط من الأهمية بمكان.
العنوان الذي اختاره المحاضر هو «تراجع الولايات المتحدة على الصعيد العالمي»، قال: «هذا التراجع ليس بجديد، فقد بدأ منذ 4 عقود». وحتى نعرف ماذا يعني بالقوة العالمية المهيمنة، فإن تعريفها في رأيه، أنها القوة التي تنشغل بـ95 في المائة من مشكلات العالم، 95 في المائة من الوقت. هذا التعريف - كما قال - ينطبق على الولايات المتحدة بين عامي 1945 و1970، كانت الولايات المتحدة في هذا الوقت غنية اقتصاديا، وقوية عسكريا، فكانت قوة مهيمنة على مسطح واسع من العالم، صحيح أن الاتحاد السوفياتي كان هناك، وتنمو قوته اطرادا، ولكن كانت هناك أيضا حرب (باردة). علينا أن نتوقف عند كلمة (باردة)، فقد كانت تعبر عن اتفاق غير مكتوب، أن تهيمن الولايات المتحدة على ثلثي العالم، ويترك الثلث الأخير للاتحاد السوفياتي، على أن يضبط كل من الطرفين، الدول التي تدور في مداره. ولم يجرؤ أي من الطرفين على تغيير المعادلة بين عامي 45 و70. كلتا القوتين كانت تملك قوى نووية يمكن أن تدمر العالم أكثر من مرة! أكبر الشواهد على ضبط كل معسكر دولا تدور في فلكه، إجبار الولايات المتحدة كلا من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل عام 1956 على الانسحاب من السويس، بعد عدوانهم على مصر. كما يلاحظ أنه بين عام 45 وعام 89 من القرن الماضي، تقريبا الحدود الدولية لم تتغير كثيرا.
ما حدث في الفترة اللاحقة للسبعينات مرورا بالثمانينات من القرن الماضي، أن قوى جديدة، خاصة في القسم الذي يهيمن عليه الاتحاد السوفياتي، وفي داخل الأحزاب التي تؤمن بأفكار اليسار في أوروبا وأميركا اللاتينية - بدأت التذمر، وانتقاد سياسات الاتحاد السوفياتي: «قلتم لنا إنكم سوف تحققون العدالة، فلم تفعلوا، قلتم إنكم سوف تهزمون المجتمع الرأسمالي من خلال ما تقدمونه من خيارات للناس، فلم تفعلوا!». وهكذا، بدأ في رحم المعسكر السوفياتي ومناصريه بذرة الانفكاك منه وحتى الانشقاق عليه. خرجت الصين من الطوق السوفياتي، لأن الأخير طلب منها أن تعترف بتايوان (الصين الوطنية) حسب الاتفاق غير المعلن بين القوتين الاتحاد السوفياتي وأميركا، فلم تفعل، ووصل الأمر بين الاتحاد السوفياتي والصين حد العداء المعلن (في المعسكر نفسه). كان الاتفاق أن تبقى فيتنام مقسمة، فرفضت الصين، في حال الجزائر، قيل للثوار الجزائريين من قبل أصدقائهم في الحزب الشيوعي الفرنسي: اصبروا حتى نصل إلى الحكم، فنمنحكم حقوقا متساوية مع المواطنين الفرنسيين، فرفض الثوار الجزائريون ومضوا في تحرير بلدهم. في حلق الولايات المتحدة، ظهر تمرد آخر؛ كاسترو الشيوعي ينقلب على باتيستا الديكتاتور الموالي للولايات المتحدة، ويضطر السوفيات إلى مناصرته، حتى أصبح العالم قاب قوسين أو أدنى من حرب شاملة.
وهكذا، ظهر التمرد من الدائرين في الفلك السوفياتي، مما اضطره إلى كسر الاتفاق غير المعلن، وبدا سباق الحروب بالنيابة. وجاءت حرب فيتنام وهزيمة أكبر اقتصاد وأكبر قوة عسكرية لتخلق لدى الشعب الأميركي ما عرف بـ«متلازمة فيتنام»، الخوف من خوض الحروب. اليسار الجديد في أوروبا رفض ما هو موجود في المعسكر الاشتراكي، واتجه إلى فرض واقع جديد.
تراجع الولايات المتحدة أجبرها على أن تطلق العنان لحلفائها باتخاذ ما يلائمهم، وظهرت سياسة (المشرقية أو ستابولتيك) التي اتبعتها الدولة الألمانية مع المعسكر الاشتراكي. سقوط الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينات من القرن الماضي كان آخر السلسلة بعد سقوط حكومات اليسار في أوروبا التي سبقته، وبسقوطه انتهت الحرب الباردة وترتيباتها غير المعلنة.
الحرب الباردة لم يكن من المقرر أن يربح فيها أحد، كانت مصممة على أن تستمر من أجل تقسيم (المغانم) و(النفوذ) وتوازن القوى. سقوط الاتحاد السوفياتي أيضا لم يكن أخبارا سارة للولايات المتحدة، لقد عنى أنه لم يعد هناك ضبط لسياسات الدول التابعة، وكان غزو الكويت من قبل العراق هو أولى نتائج اختلال الضبط.
الملاحظ أن حملة تحرير الكويت لم تمول من الخزينة الأميركية، مُولت من قبل الكويت والمملكة العربية السعودية واليابان (ودول أخرى)، إلا أن (متلازمة فيتنام) جعلت من الولايات المتحدة تحجم عن الذهاب إلى بغداد وقتها، استمرارا لهذا الانسحاب مركز القوة المهيمنة، التي بدأت بعد الرئيس آيزنهاور مرورا بريتشارد نيكسون، وتبعهم كل الرؤساء حتى باراك أوباما. الاستثناء هو ما حدث بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، حيث ضُربت المصالح الأميركية في عقر دارها، لأول مرة بعد ضرب اليابانيين لبير هاربر، مما جعل المحافظين الجدد، مع السيد بوش الابن، يشنون حربا؛ أولا على أفغانستان، ثم على العراق، حتى دون تفويض من الأمم المتحدة، ولأول مرة تنهزم أميركا في التصويت بمجلس الأمن، ويتفرق الحلفاء، خاصة الأوروبيين حول الحرب تلك.
ينتهي المحاضر بالقول إن الولايات المتحدة أصبحت أقل قدرة على الوفاء بتعهداتها، وصعب التنبؤ بما سوف تقوم به.. ولكنها ترغب في أن تكون قوة عظمى، وفي الوقت نفسه، تريد ألا تدفع ثمن ذلك، تريد من الحلفاء أن يدفعوا ليس المال فقط، ولكن الرجال أيضا.
ينتهي المحاضر بالقول، حتى أقرب الحلفاء للولايات المتحدة لم يعودوا يعتمدون عليها، فأولى أن تعتمدوا على أنفسكم، ولكن دون استفزاز للولايات المتحدة.
كانت المحاضرة رسالة لمن يريد أن يقرأ، عشية انعقاد القمة الخامسة والثلاثين لمجلس التعاون.
تلك باختصار رسالة واحد من المتخصصين الكبار في العلاقات الدولية، يمكن لبعضنا أن يناقش مقولاتها وقد يدحض بعضها، ولكنها في النهاية رسالة تستحق أن يُفكر فيها بعمق وروية، في خضم أكبر اضطراب يصيب الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الأولى.
آخر الكلام:
التراجع الأميركي بيِّن ومشاهَد على كل مستوى، من القوة المهيمنة، إلى القوة الأخلاقية، تقرير الكونغرس الأخير عن التعذيب الذي يقول «استخدام طرق وحشية ونتائج محدودة» يدل على اضطراب في القيم وفي الأهداف.