د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

المحاكمة!

لم تنته محاكمة الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك بعد؛ فقد طعنت النيابة العامة في الحكم، ومن ثم فإن محكمة النقض هذه المرة ستكون هي مسرح المحاكمة للمرة الرابعة والأخيرة. ولمن لا يعرفون النظام القضائي المصري، فإنه في مثل هذه الحالة تجرى المحاكمة الأولى (التي قضت بالسجن مدى الحياة للرئيس الذي طعن في الحكم) أمام محكمة النقض، وأمامها أيضا جرت المحاكمة الثانية لكنها كانت للإجراءات في المحاكمة الأولى وكسبها مبارك، فعادت إلى المحاكمة الثالثة أمام محكمة أخرى فقضت ببراءته. وأمام طعن النيابة العامة، فإن محكمة النقض ستجري المحاكمة في الموضوع ويكون حكمها باتا ونهائيا.
سوف نترك محاكمة المتهمين الآخرين في القضية جانبا، وهم ابنا الرئيس الأسبق علاء وجمال، ووزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي، ورجل الأعمال حسين سالم، وستة من القيادات العليا في وزارة الداخلية إبان الأحداث التي جرت بين 25 يناير (كانون الثاني) 2011 و11 فبراير (شباط) من العام ذاته. ثمانية عشر يوما من حكم رئيس حكم مصر ثلاثين عاما، باتت هي موضوع القضية حينما تعلقت بمصرع 847 مصريا - طبقا لتقرير لجنة المستشار عادل قورة التي تشكلت بعد الثورة لفحص أحداثها - بالإضافة لتهم أخرى. لكن محاكمة الرؤساء لا تجرى تاريخيا بسبب تهم بعينها، وإنما تحدث لأن عصرا بأكمله يوضع على طاولة التحقيق والبحث والفحص ليس فقط أمام هيئة أو هيئات المحاكمة أو المحاكمات، وإنما أمام الرأي العام كله والعالم أيضا، لأن السياسة والاقتصاد والمجتمع تصير كلها في لحظة انكشاف عظمى أمام كل من يريد وضعها تحت المجهر. هي لحظة فارقة في تاريخ المجتمعات يكون لها ما قبلها، ويكون لها ما بعدها، وبهذا المعنى تصبح «ثورية» لأنها ليست مثل كل اللحظات التي تأتي وتذهب دون أن يدركها أحد.
المعضلة في مثل هذه الأحوال أن التاريخ لا يتوقف، بل إنه يتسارع بقوة مخيفة، لأنه هكذا يكون شأن «الثورات»، وبينما «المحاكمة» تجرى وفق قواعدها من البحث عن الأدلة والاستماع إلى شهود الإثبات والنفي، وتقديم مرافعات النيابة والمحامين، فإن العصر الذي هو موضوع المحاكمة الحقيقي يكون قد تغير. ببساطة فإن القضاة سواء كانوا في المحكمة أو في الإعلام أو الرأي العام في مجموعه يكونون مثل الأعمى الذي يحاول جاهدا أن يقيس أبعاد مكعب من الثلج بينما يذوب بين أصابعه! فلم تخرج مصر من عهد مبارك لكي تدخل عهدا آخر، وإنما فجأة ونتيجة الحراك السياسي العنيف دخلت في ثلاثة عهود متتالية، كان أولها عندما تولى المجلس العسكري المسؤولية، وصاحب ذلك إعلان دستوري وتعديلات دستورية؛ وكان ثانيها وصول «الإخوان المسلمين» إلى السلطة ولفترة كانت لهم الأغلبية في مجلس النواب ثم كان لهم منصب الرئاسة ودستور جديد في عام 2012؛ وكان ثالثها فترة انتقالية جرت فيها ثورة أخرى وكان فيها رئيس مؤقت ودستور آخر جديد في 2014؛ حتى جاء رابعها مستقرا عند انتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي.
لم تكن هذه العهود مشهدا للدساتير والقوانين، ولكن كانت معها وزارات ومحافظون ومزاج عام يتغير بين ليلة وضحاها، وأحيانا بين لحظة وأخرى. فجأة لم يكن عهد مبارك وحده موضوعا للمحاكمة، بل مجموعة من العهود والتطورات الأخرى «الثورية» أحيانا والمأساوية في كل الأحيان، بل إن «الثورة» أصبحت هي الأخرى موضوعا للمحاكمة العامة، وعما إذا كانت في حقيقتها «مؤامرة» أم أنها كانت «ضرورة» تاريخية تعطي الشرعية لمن والاها، وتحرمها ممن يعادونها أو يستنكرونها. لم يعد «الثوار» مجموعة من الشباب النقي الذي جاء على صهوات جياد بيضاء لكي ينقذ المحروسة من عصر بغيض، وإنما ظهروا جماعة من البشر مثل غيرهم لديهم المبادئ والأهواء في الوقت نفسه، وتتنافس (نحو 216 مجموعة ثورية) على مقعد في السلطة، والأخطر أن جماعات منها لا تستطيع الاتفاق على برنامج من عشر نقاط لإصلاح البلاد، وحينما اتفقت فإنها سلمت البلد لـ«الإخوان المسلمين» في اتفاق «فيرمونت».
فجأة ودون أن يدري أحد لم يعد مبارك وجماعته موضوعا للمحاكمة فقط، وإنما باتوا موضوعا للمقارنة. وما كان عهدا «للركود والفساد» صمد أمام عهود للثورة والتغيير، لكنها لم تحقق استقرارا أو أمنا أو تنمية، بل إن البلاد وصلت إلى حافة الدولة الفاشية المولدة للإرهاب والعنف والقتل. وبينما كان حصر «الضحايا» وصل إلى 847 في الثورة الأولي، وثبت أن معظمهم سقطوا في عمليات اقتحام السجون وإحراق محطات الشرطة والمؤسسات العامة، فإن ما جاء بعدها استعصى على الحصر في مواجهات جرت في موجات «ثورية» استعصى على من شاركوا فيها معرفة أسبابها. كان الأمر قد قارب الجنون، وأصبحت مصر لا راكدة ولا فاسدة، فلم يكن أحد يحقق، وإنما متراجعة في كل معدلات النمو والتطور والتحديث.
سقط السؤال على المصريين كالسيف على الساحة في نهار ساطع بعد ثلاث سنوات من الثورة: هل أصبحت أفضل حالا مما كنت عليه في وقت الرئيس الواقع تحت المحاكمة؟ كان «الثوار» لديهم إجابة جاهزة وهي أن جذور التراجع تعود إلى عهد مبارك، لكن ذلك كان الشهادة المنطقية للتخلي عن المسؤولية؛ وحينما طرحت الأحزاب المدنية طرحا مشابها لتبرير ضعفها وقلة حيلتها فقد كان ذلك بدوره شهادة منطقية على أنها لا في السابق ولا في اللاحق لديها القدرة على قيادة البلاد. «الإخوان المسلمون» الذين طرحوا أنفسهم في دور المخلص لمصر والأمة الإسلامية كلها منذ عام 1928 أسفروا عن وجههم الحقيقي كمنظمة إجرامية تدير البلاد سرا، لكنها في جوهرها لا تعرف الكثير لا عن التاريخ ولا المستقبل ولا إدارة دولة، وأنها في النهاية تولد جماعات من نوعية «أنصار بيت المقدس» و«داعش» و«القاعدة» حينما تصير حجتها عن هؤلاء أنها البديل «المعتدل» بينما هي الخالقة لهم بالفكر أو بالتدبير. كانت التجربة السياسية متسعة الأرجاء، وجرى الامتحان للجميع، وجاءت المحاكمة على الكل، وظهرت المقارنة بين مبارك ومرسي، وحتى بين عصام شرف وأحمد نظيف!
ببساطة ظهرت حقائق جديدة لم يكن للنظام القديم فيها يد، وكان من المستحيل إرجاعها إلى نظام مبارك، وحينما حكمت المحكمة ببراءته كانت في الحقيقة تصدر حكما على ما جاء بعده، وكانت تلك هي المعضلة الكبرى التي سقطت كالصاعقة على النظارة في مشهد تاريخي مثير ومحزن، حتى وصل في النهاية إلى بارقة أمل وبداية عهد آخر يقام فيه العدل ويستقيم فيه الميزان.