طارق الحميد
صحافي سعودي، عمل مراسلاً في واشنطن. تدرَّج في مناصب الصحيفة إلى أن أصبحَ رئيس تحرير «الشرق الأوسط» من 2004-2013، ورئيس تحرير مجلة «الرجل» سابقاً. محاضر دورات تدريبية في الإعلام، ومقدم برنامج تلفزيوني حواري، وكاتب سياسي في الصحيفة.
TT

نعم لكل مجتمع خصوصية

كيف يمكن تفسير خروج مظاهرات في نيويورك، والمدن الأميركية الأخرى، احتجاجا على عنف الشرطة المفرط ضد السود العزل هناك، وخصوصا عند استحضار أحداث منطقتنا الأخيرة؟ كيف يمكن، مثلا، تفسير خروج مظاهرات بأجزاء من منطقتنا ضد القمع، والعنف، مطالبة بكرامة وحرية وعدالة اجتماعية، ويخرج الرئيس الأميركي وأعضاء الكونغرس لمحاضرة هذه المنطقة المأزومة، ويحاضرنا قبلهم وبعدهم الإعلام الأميركي، ثم يخرج الأميركيون بمظاهرات احتجاج تطالب بالعدالة بأميركا نفسها، والقول بأن الأميركي الأسود بشر يجب أن يحقن دمه وتحترم إنسانيته؟ كيف يمكن فهم ذلك؟
وملخص القصة، لمن لم يتابعها، هو اندلاع احتجاجات بالمدن الأميركية جراء مقتل سود عزل، وبأوقات مختلفة، أحدهم مراهق أسود أعزل أطلق شرطي أبيض عليه النار وأرداه قتيلا أغسطس (آب) الماضي بضاحية فيرغسون بمدينة سانت لويس بولاية ميسوري، وامتنعت هيئة المحلفين عن إدانة الشرطي الأبيض. وبعدها بـ9 أيام امتنعت هيئة محلفين أخرى بمحكمة بنيويورك عن توجيه اتهام لضابط شرطة أبيض تسبب بمقتل أميركي أسود أب لـ6 أبناء، علما أن عملية القتل كانت مصورة بالفيديو من قبل أحد المارة! حسنا، ما معنى ذلك؟ وكيف يحدث هذا بالدولة العظمى التي تعد أيضا أقوى ديمقراطية بالعالم، وتعتبر أن رسالتها وقيمها تقوم على نشر الحرية، والتسامح، وكافة الشعارات التي نسمعها من الإدارات والمنظمات الأميركية؟
وعليه فإذا كانت القصة بأميركا قصة عنصرية، وهي كذلك، رغم وجود الرئيس الأسود في البيت الأبيض، فإن الحقيقة الأخرى، والدرس الذي لا يمكن تجاهله، هو أن لكل مجتمع خصوصية، ومهما تطور، وتقدم، أو رغب بالتطور والتقدم. وقد يكون هذا الإقرار مستفزا، أو مثيرا للجدل، لكنه حقيقة ماثلة أمامنا، وخصوصا بأميركا التي رغم كل تقدمها الحضاري، والإنساني، فإنها لا تزال تعاني من مشكلة عنصرية حقيقية يصعب حسمها دون أثمان باهظة، ورغم وجود أوباما كأول رئيس أميركي أسود في تاريخ أميركا.
وهذا يقول لنا بكل بساطة إن لكل مجتمع، وأيا كان، مشاكله الخاصة النابعة من واقعه، وجغرافيته، ومكونه الثقافي، وليس مهما أن نختلف مع تلك المشاكل، أو نتفق، أو أن نراها مهمة أو تافهة ببعض الأحيان، الأهم هو أن الحقائق تقول لنا إن لكل مجتمع خصوصية، ويجب أن تعالج مشاكله وفق تلك الخصوصية، صحيح أن العقلاء، وبكل مكان، يرغبون في الإصلاح والانفتاح لأنه الطريق الطبيعي لتقدم الأمم، لكن للأسف لا توجد حلول سحرية، ولا وصفة موحدة، ولذا فالأهم هو قناعة كل مجتمع بحجم مشاكله، والعمل الجاد على حلها، ووفق قدرة المجتمع نفسه، والأمثلة كثيرة، وتطول، لكن من المهم أن التنبه إلى أننا لا نتحدث هنا عن إرهاب الدولة كما تفعل إيران، أو المجرم بشار الأسد، وإنما نتحدث عن العقد الاجتماعية التي تحتاج إلى صبر، ومثابرة لحلحلتها، فهيئة المحلفين، مثلا، بأميركا هي من المواطنين، وليسوا موظفي دولة، والفارق كبير بالطبع مقارنة بجرائم إيران والأسد، وهذا ما يظهر أيضا عمق أزمة العنصرية بأميركا.