مشاري الذايدي
صحافي وكاتب سعودي. عمل في عدة صحف ومجلات سعودية. اشتغل في جريدة المدينة السعودية في عدة أقسام حتى صار عضو هيئة التطوير فيها. ثم انتقل لـ«الشرق الأوسط» من 2003، وتدرَّج بعدة مواقع منها: المشرف على قسم الرأي حتى صار كبير المحررين في السعودية والخليج، وكاتباً منتظماً بها. اختير ضمن أعضاء الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة. وشارك بأوراق عمل في العديد من الندوات العربية. أعدَّ وقدَّم برنامجي «مرايا» وبرنامج «الندوة». في شبكة قنوات «العربية».
TT

عقل يغيب

كوكب لبناني آخر هوى.. «وطوحت للمغيب الأنجم الزهر». عن قرنٍ وسنتين فوقه رحل الشاعر الكبير سعيد عقل، أرزّة لبنان الكبرى.
الرجل في كل طيات حياته ملء السمع والبصر، صاحب لغة خاصة، وخيال خاص، ورسالة خاصة، وصوت أجش خاص، وطلة بشعره الأبيض الثلجي.
ولد في زحلة (جارة الوادي)، إبان غياب عالم قديم وولادة عالم جديد 1912، ذلك العقد الذي شهد اندلاع الحرب العالمية الأولى وغياب الإمبراطوريات، وأهمها العثمانية التي عصفت بأعمدتها رياح الحرب العظمى، وقامت بعدها حقب أخرى من الثقافة السياسية والقومية، وثارت النزعات المحلية، وكان منها الفينيقية اللبنانية، التي كان شاعر قبيلتها سعيد عقل، كما كان شاعر الشام ولبنان.
بعيدا عن المعارك الثقافية والأدبية والسياسية التي خاضها شاعر زحلة والفينيقية، ومنها معركة الانتصار لـ«المحكية اللبنانية» بوصفها لغة، يظل شعر عقل بالفصحى بهجة للقلب ومتعة للذوق، وسجلا للشرق الحديث.
وهو يرحل عن هذا الشرق الحزين الذي تفتك به الآن أحقاد التاريخ من خلال جماعات الحاضر، نتذكر ولع الشاعر عقل بالشام وجباله وتاريخه انطلاقا من قمم لبنان وسهوله وبقاعه.
الشام، أي دمشق، تمثل حضورا خاصا في السردية المسيحية السورية اللبنانية، ومؤسس الدولة الأموية معاوية، وأسلافه من بعده كانوا يمثلون نكهة شامية خاصة، أحبها على وجه التحديد، نصارى العرب وبلاد الشام، لأنهم شهدوا في وقتها تسامح الأمويين مع المسيحيين العرب، فقد سلك الأمويون سياسة اتسمت باللين والتسامح مع المسيحيين، كما بيّنت الباحثة التونسية سلوى بالحاج صالح، في كتابها «المسيحية العربية وتطوراتها من نشأتها حتى القرن الرابع الهجري». وتشير إلى العلاقة الخاصة للشاعر الأموي المسيحي «الأخطل» مع الخليفة عبد الملك. في هذه الحقبة ازدهرت الكنيستان اليعقوبية والنسطورية، واتسعت مساحة التعايش بينهما. وكان للتغالبة أبرشيتان.
المؤرخ اللبناني الحكيم، كمال صليبي، الراحل هو الآخر عن عالمنا منذ وهلة، تحدث في كتابه «الشام في العصور الإسلامية الأولى» عن هذا التقدير الخاص للحكم الأموي، كما كتب سعيد عقل الغرر من قصائده في الشام، ما يجوهر هذا الإحساس العميق القديم.
في قصيدته التي شدت بها فيروز، في دمشق 1961 وهي سائليني يا شام:
أهلك التاريخ من فضلتهم - ذكرهم في عروة الدهر وسام
أمويون فإن ضقت بهم - ألحقوا الدنيا ببستان هشام.
وفي قصيدته الأخرى عن الشام يقول عقل:
في الشَّام أنتَ هوى وفي بيروت أغنية وراحُ - أهلي وأهلُكَ والحضارةُ وحَّدَتْنا والسَّماحُ
وصمودنا وقوافلُ الأبطال من ضحّوا وراحوا - يا شامُ يا بوّابة التاريخ تحرُسُكِ الرماحُ
رحيل سعيد عقل هو رحيل لتاريخ وعقل ماضٍ، وفن وزخرفة ومعارك وخيال وطلل دارس يكتنز الهوية والمجد، وصليل السيوف وصيحات الحرب ويقظة الأمم والملل.
قبل عقل، صاحب المعارك والشاعر المتحكم، بأيام، حلقت غيمة لبنانية أخرى للعلا، نثرت الفرح، صباح الصبوحة.
إنه زمن كامل يودع.
[email protected]