أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

إيران.. دولة وحكومتان

لم يخرج أي إعلان رسمي، غير أن المفاوضات التي بدأت في جنيف العام الماضي يمكن أن تكون قد قسمت إيران إلى حكومتين.
الحكومة الشرعية القانونية وعلى رأسها المرشد الإيراني علي خامنئي وحاشيته الذين يتصرفون من خلف الكواليس التي تشمل فيما تشمل مؤسسة الرئاسة ومجلس الشورى الإسلامي. وقد تحددت سلطاتها ومسؤولياتها بموجب دستور البلاد الذي، غالبا ما يُنتهك، لا يزال يُعتبر من النقاط المرجعية هناك. وإلى جانب تلك الحكومة الشرعية القانونية برزت إلى الوجود حكومة الأمر الواقع في صورة حيوان عجيب يسمى مجموعة (5+1). ومن خلال التعاطي مع اتفاق جنيف المزعوم أو «خطة العمل المشترك»، اعترفت الحكومة الشرعية بصفة ضمنية بسلطان حكومة الأمر الواقع وفق مجموعة من القضايا. ويؤكد ذلك تأكيدا التمديد الأخير في فيينا لـ«خطة العمل المشترك» ولمدة سبعة أشهر أخرى. مُنحت مجموعة (5+1) حق الإشراف على مجموعة من القضايا. وبالمصطلح الدبلوماسي، فإن ذلك يُسمى (le droit de regard) وهو مصطلح فرنسي يعني «حق التفتيش» وينطبق حينما تمنح الأمة للقوى الخارجية حق إبداء الرأي في شؤونها الداخلية. وعلى الرغم أن ذلك الحق لا يرتقي إلى مستوى حق النقض (الفيتو)، فإن ««حق التفتيش» يخول للقوى الخارجية مجالا لتشكيل سياسات البلاد.
فما هي الحقوق التي منحتها طهران ضمنا إلى السلطة الخارجية المناظرة، أو سلطة الأمر الواقع كما أشرنا؟
أولا، حق فرض العقوبات.
في عهد رئاسة السيد خاتمي وأحمدي نجاد، كانت إيران اتخذت موقفا حيال الطبقات الستة من العقوبات المفروضة على الأخص من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بأنها عقوبات غير قانونية وغير منصفة على حد سواء. وطالبت إيران بالرفع الفوري لتلك العقوبات كشرط أساسي ومسبق قبل التفاوض على أية قضايا أخرى، وعلى الأخص كذلك، القضية النووية.
أما تحت عهد السيد حسن روحاني، لا تزال تلك العقوبات تُعتبر غير منصفة، ولكن لم تعد تحمل صفة عدم القانونية من جديد.
فقبول السيد روحاني الضمني لمشروعية تلك العقوبات بدا جليا من خلال استعداده لربط إبطال تلك العقوبات بامتيازات من جانب إيران. وبموجب خطة العمل المشترك، منحت إيران 23 امتيازا في مقابل 11 وعدا من جانب مجموعة (5+1)، مما يشرعن ويقنن للعقوبات المفروضة.
تتحدث مجموعة (5+1) عن الاحتفاظ بفرض العقوبات لفترة قد تصل إلى 25 عاما، لاختبار حسن النوايا لدى إيران. ويريد السيد روحاني تقليل تلك الفترة إلى خمس سنوات فقط. ولكن إذا كان الأمر غير قانوني لمدة 25 عاما فمن باب أولى أن يظل كذلك لمدة خمس سنوات، أو خمس دقائق إزاء تلك القضية.
هذا وقد حدث شيء آخر.
في عهد رئاسة السيد خاتمي وأحمدي نجاد، اعتبرت إيران التواصل مع مجموعة (5+1) من قبيل تبادل وجهات النظر والآراء، وليس من قبيل المفاوضات الرسمية.
لم يكن على رأس الجانب الإيراني رئيس للوزراء قط، والذي يمثل السيادة الوطنية، ولكن كان يترأسه أحد المسؤولين المفوضين الذي كانت مهمته الاستماع إلى وجهات نظر مجموعة (5+1) وإبلاغهم بوجهات النظر الإيرانية ولكن من دون إجراء المفاوضات التي تؤثر على السيادة الوطنية الإيرانية.
تصرف السيد خاتمي والسيد أحمدي نجاد وفقا للأعراف الدبلوماسية التي أسست منذ معاهدات ويستفاليا في القرن السابع عشر. وكون إيران دولة ذات سيادة، فلا يمكنها التفاوض مع كيان غير رسمي يفتقد إلى أية وضعية قانونية.
ومجموعة (5+1) ما هي إلا جماعة مخصصة لغرض معين خلفت ما كان يسمى بالمجموعة الأوروبية الثلاثية التي كانت تضم وزراء خارجية بريطانيا وفرنسا وألمانيا. وقد نشأت في مقر إقامة جاك سترو، وزير الخارجية البريطاني في ذلك الوقت من عام 2006. وفي كل إصداراتها، فإن تلك المجموعة المخصصة لغرض ما، لم تتمتع بأي وضع قانوني.
إذا لم يتم التوقيع على أي شيء في جنيف خلال العام الماضي، أو في فيينا خلال الأسبوع الماضي، فذلك يرجع بالأساس إلى أن مجموعة (5+1) لا تتمتع بأية سلطة للتوقيع على أي شيء بالنيابة عن أي أحد. ولسوف نواجه ذات الموقف بعد مرور الأشهر السبعة المزعومة.
بعد تنازلها عن جزء من سيادتها، وجدت إيران نفسها على رأس منحدر زلق يستنزف منها المزيد من الخسائر في هذا المسار.
وإليكم بعض الأمثلة:
* مع الحديث عن «الاستخدام المزدوج» فإنهم يؤثرون على السياسة الصناعية الإيرانية عبر جميع المجالات من خلال التحكم في التقنيات، والآلات، وقطع الغيار، حتى الموجه منها لصالح الأغراض المدنية.
* لمجموعة (5+1) الرأي في مقدار النفط الذي يُسمح لإيران بتصديره.
* للمجموعة الرأي في مقدار الدخل النفطي الإيراني الذي يمكن للدولة الوصول إليه في أي وقت.
* للمجموعة حق تقرير ما ينبغي على إيران إنفاقه من أموالها.
* من خلال التفتيش على السفن والطائرات، فإنهم يمارسون «الإشراف» على الصادرات والواردات الإيرانية. (صادر مكتب الجمارك الألمانية العام الماضي عشرات البضائع الموجهة إلى إيران).
* تُقيد المجموعة وتُنظم وصول إيران إلى أسواق رأس المال في حين تُشرف المجموعة على المدفوعات الخارجية الإيرانية من خلال تدابير تتعارض مع البنك المركزي الإيراني.
* تم تجميد أكثر من 400 مشروع في إيران بسبب أن الشركات الأجنبية غير مستعدة للاستثمار أو توفير التقنيات المطلوبة حتى رفع العقوبات. (أخبر السيد روحاني يوم الاثنين التلفزيون الرسمي الإيراني أن الشركات الأجنبية أخبرته أنه لا يمكنهم فعل أي شيء حتى يتم رفع العقوبات).
* حتى الدول الأجنبية غير المشاركة في العقوبات المفروضة على إيران تعمل على مراقبة تلك العقوبات عمليا؛ إذ انسحبت الهند من مشروع لإنشاء خط أنابيب الغاز من إيران. وأوقفت الصين خطة كانت تهدف إلى تطوير ميناء إيراني كبير على خليج عمان. وانسحبت اليابان من مشروع ضخم للبتروكيماويات.
* يتعين على وزير الخارجية الإيراني تقديم تقرير إلى مجموعة (5+1) بصفة دورية. واللافت للنظر هنا، أنه لا يرفع مثل ذلك التقرير إلى البرلمان الإيراني.
* تسعى المجموعة من خلال استخدام القضية النووية إلى أن يكون لها كلمة في الصناعات التسليحية الإيرانية، وهو أمر في ظاهره يبدو لمنع إيران من تطوير الرؤوس الحربية القادرة على حمل الرؤوس النووية.
* تقرر المجموعة أيا من الطلاب الإيرانيين في الخارج الذين يحصلون على رواتب.
* تقرر المجموعة مقدار اليورانيوم الذي ينبغي على إيران تخصيبه وإلى أي درجة.
* تقرر المجموعة أيا من المسؤولين ورجال الأعمال الإيرانيين المسموح لهم بالسفر إلى الخارج.
* تقرر المجموعة أيا من المؤتمرات الدولية المسموح للعلماء الإيرانيين بحضورها.
* للمجموعة الكلمة فيمن تعينه إيران من سفراء بالخارج. وقد اعترضت المجموعة على أربعة ترشيحات حلال العام الماضي، بما في ذلك سفير إيران إلى الأمم المتحدة.
اللافت للنظر أنه في حين أن إيران قد جمدت بالفعل ببرنامجها النووي، إلا أن مجموعة (5+1) قد خولت لماكينة العقوبات بالعمل كما كانت. ومنذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، قضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي 108 عقوبات جديدة ضد الشركات، ورجال الأعمال، والعلماء الإيرانيين، وحتى ضد الجامعات الإيرانية، في حين فرضا غرامات على 13 بنكا وشركة دولية بسبب التعامل مع إيران.
ومن الصحيح كذلك، أن مجموعة (5+1) وافقت على الإفراج عن 7 مليارات دولار من الأصول الإيرانية. وحال كتابة تلك السطور، تم الإفراج الفعلي عن 4.8 مليار دولار منها. ومع ذلك، وفي نفس الفترة، جرى تجميد 12 مليار دولار من الدخل الإيراني. ومن الآن وحتى يوليو (تموز)، سوف تُفرج مجموعة (5+1) عن 700 مليون دولار كل شهر. وفي نفس الوقت، ورغم ذلك، سوف تُجمد المجموعة مليار دولار كل شهر. وصافي ما تجنيه إيران سوف يكون 300 مليون دولار من دخلها كل شهر. أليس ذلك بالوقت الذي يفكر فيه الإيرانيون بالعواقب المترتبة على السياسة التي قد تُخضع دولتهم تحت الوصاية الخارجية لعدة سنوات، إن لم تكن لعقود؟