طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

مصيدة الانطباع الأول!

من يكتشف المواهب الجديدة؟ هناك من يستطيع أن يقرأ تلك الإرهاصات في الصوت أو الملامح أو الأسلوب ويبشر بها. ولدينا عدد من الذواقة لكل فنون الإبداع، هكذا كان مثلا الشاعر والصحافي الكبير كامل الشناوي. وكان متخصصا في اكتشاف وتلميع المواهب وفي كل المجالات في الصحافة والأدب والموسيقى والغناء، ولم يُخطئ ولا مرة في الرهان.
على الجانب الآخر، يحفل تاريخنا الفني بالكثير من الأحكام الخاطئة حيث كان الانطباع الأول ليس في صالحها. حكى لي مثلا عادل أدهم أنه عندما قرأ في نهاية الأربعينات أن شركة إنتاج يديرها أنور وجدي تبحث عن وجوه جديدة فقرر أن يتقدم إليها، وقال له أنور بمشاعر باردة اترك رقم تليفونك عند السكرتارية، وبينما هو في طريقه لمغادرة المكتب تناهى إلى سمعه صوت أنور وهو يقول لأحد مساعديه «هو كل واحد عيونه خضرا وشعره أصفر يفتكر نفسه حيبقى نجم سينمائي»، وأبعدته تلك الكلمات 10 سنوات عن بداية مشواره السينمائي.
شيء من هذا من الممكن أن تجده مثلا في رأي المنتجة ماري كويني عندما أراد المخرج عاطف سالم أن يصور عبد الحليم وهو يغني في مقدمة فيلمه «فجر». اعترضت ماري لأن الانطباع الأول لم يكن في صالحه، وقالت وجه عبد الحليم ليس «فوتوجينيك»، أي أن ملامحه لا تصلح للتصوير أمام الكاميرا، ولم ينس حليم هذا الموقف، وعندما صار نجم شباك وطلبت التعاقد معه على فيلم جديد بـ3 أضعاف أجره قرر أن يرد لها الصفعة ورفض العرض.
ليلى مراد التي مرت ذكراها الـ19 قبل يومين اعترض عليها محمد كريم، أحد أهم رواد الإخراج في مصر والعالم العربي، وقال: إن تكوينها الجسدي يخاصم الكاميرا وأثبتت الأيام أنها المطربة السينمائية الأولى في تاريخنا الغنائي، وحظيت بأكبر أجر عرفته الشاشة الفضية. كانوا يقارنونها بأجور نجمات هوليوود في الأربعينات. المخرج محمد فاضل معروف عنه أنه مكتشف المواهب الأول عبر الشاشة الصغيرة، وقدم لأول مرة نور الشريف، ويحيى الفخراني، وآثار الحكيم، وغيرهم، إلا أنه عندما تقدم له محمود عبد العزيز لكي يمنحه الفرصة، قال له إنك لا تصلح للتمثيل، وكان محمود قد أنهى دراسته الجامعية بكلية الزراعة وحاصلا على الماجستير، إلا أن حلمه الأثير كان التمثيل، فقرر في لحظة غضب أن يسافر إلى «فيينا» ليس من أجل إكمال الدراسة ولكن لكي يبيع الجرائد في الشوارع، وبالقرب من دار الأوبرا هناك اكتشف أنه لا يمكن أن ينسى الفن، فلم يستطع مواصلة الهجرة وعاد بطلا على الشاشتين وعمل مع أغلب المخرجين إلا مخرجا واحدا وهو محمد فاضل.
المعروف أن فيروز التي احتفلنا مؤخرا ببلوغها شاطئ الـ79 من عمرها لم يكن منصور رحباني متحمسا لها في البداية وكان الانطباع الأول أنها لا تصلح للغناء الراقص ثم صار الثلاثي (الأخوان رحباني وفيروز) هم عنوان الموسيقى في لبنان وعالمنا العربي، وأكد بالطبع زياد بنبضه الموسيقي العصري تلك المكانة للرحبانية لجارة القمر.
كان من المفترض مثلا أن تلعب سعاد حسني الجزء الأول من فيلم «البنات والصيف» عام 60 ولكن المخرج صلاح أبو سيف لم يقتنع بها وأسند دورها إلى سميرة أحمد، ومضت 7 سنوات لتصبح سعاد هي الترشيح الأول لصلاح أبو سيف لأهم أفلامه مثل «القاهرة 30» و«الزوجة الثانية».
يقولون: إن الانطباع الأول يدوم بينما على أرض الواقع كثيرا ما تُثبت لنا الأيام كم كانت كاذبة تلك الانطباعات الأولى المضللة، وأننا من دون أن نشعر وقعنا في المصيدة وصدقناها!!