عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

تغير النمط الانتخابي في بريطانيا

مسيرة حزب استقلال المملكة المتحدة تحولت إلى قطار إكسبريس يندفع نحو أقدم برلمانات العالم في وستمنستر، ويدهس في طريقه زعماء الأحزاب السياسية الكبرى الذين يدفنون رؤوسهم في الرمال زاعمين أنه زوبعة في فنجان تعكس احتجاج الناخبين.
مرشح الحزب مايكل ريكلاس فاز في دائرة كانت معقلا للمحافظين، وكان، حتى بضعة أسابيع، من نواب حكومة المحافظين، لكنه استقال من الحزب ومن نيابة البرلمان، مما استدعى انتخابات فرعية خاضها تحت شعار حزب استقلال المملكة المتحدة، ففاز بأغلبية ثلاثة آلاف صوت. وإذا حسبنا أنه عندما فاز في عام 2010 تحت شعار المحافظين كان فارق الأصوات عن العمال عشرة آلاف صوت، فإن الفارق الحقيقي عن المحافظين هو 13 ألف صوت.
مرشح الأحرار الديمقراطيين شريك المحافظين في حكومة الائتلاف حصل على 300 صوت فقط، أقل من واحد في المائة من الأصوات، لأن الحزب هو الأكثر تحمسا للفيدرالية الأوروبية. معظم البريطانيين يفضلون سوقا أوروبية مشتركة ويرفضون الانضواء تحت لواء فيدرالية عاصمتها بروكسل وقاطرتها الاقتصادية ألمانيا التي تنافس منتجاتها الصناعية المؤسسات البريطانية في أسواق التصدير.
حزب «استقلال المملكة المتحدة» برنامجه الاستقلال عن سيطرة مفوضية غير منتخبة في بروكسل.
فوز الحزب يوم الخميس هو الثاني في شهر، والأول كان أيضا في معقل محافظين آخر انتقل نائبه من المحافظين إلى الاستقلال، وخاض الانتخابات وفاز فيها.
أثناء الحملة الانتخابية زار زعيم المحافظين ورئيس الوزراء ديفيد كاميرون دائرة روشستر خمس مرات، هو وزعماء المحافظين. والحملات الانتخابية البريطانية لا تتم عبر التلفزيون كأميركا، ولا في مهرجانات شعبية حافلة كحال مصر، أو ديوانيات كالكويت. لكنها، ولأجيال طويلة، تجرى على عتبات البيوت والإنصات لشكوى (أو ربما شتائم) ربة دار من ارتفاع الأسعار وعدم كفاية الخدمات، أو تلتقي مع الباعة والزبائن في الأسواق.
النظام الانتخابي نظام دوائر (الانتخاب المباشر) لا القوائم (التمثيل النسبي). نائب الدائرة حتى في أقصى أطراف الجزر البريطانية يقضي أربع ليال في لندن أثناء انعقاد البرلمان، وثلاث ليال منها عطلة نهاية الأسبوع في دائرته، منها يوم كامل في ما يعرف بالعيادة التي يستقبل فيها أهالي الدائرة ويبحث معهم الأمور. ولذا فالنائب معروف شخصيا لأبناء الدائرة الواعين برصيده سلبا أو إيجابا.
ولذا اعتمد النائبان اللذان تركا المحافظين وخاضا الانتخابات لحساب حزب الاستقلال على رصيدهما عند أبناء الدائرة وكانا مطمئنين للنجاح.
ما يروجه زعيم المحافظين كاميرون، وزعيم حزب العمال المعارض إدوارد ميليباند، بأن نتيجتي الدائرتين اللتين وضعتا أول نائبين للاستقلال في وستمنستر كانت مجرد تصويت احتجاجي، قد لا يكون له قيمة، وهو إنكار للوقائع. فهذا التحليل مبني على أنماط التصويت التقليدية التي يبدو أنها تغيرت منذ خمسة أعوام. فالغالبية الساحقة من الناخبين اعتادت التصويت إما للعمال أو للمحافظين لقناعتهم بأن التصويت لحزب من الأحزاب الأصغر هو مضيعة للوقت والصوت الانتخابي، لأنه لا يغير شيئا.
لكن هذا تغير في حملة 2010 للمرة الأولى بالمناظرة التلفزيونية التي جذب فيها الشاب الوسيم نيكولاس كليغ الانتباه وحصل حزبه (الأحرار الديمقراطيون) على ما يكفي من أصوات احتاج إليها كاميرون لتشكيل حكومة ائتلافية يكون مجموع مقاعد كتلتيها أكثر من نصف المقاعد البرلمانية. كليغ أضاف إلى وحذف من برنامج المحافظين ما كسر المقولة التقليدية بأن التصويت للأحزاب الصغيرة هو مضيعة للوقت، فها هو الحزب الصغير أدى إلى تغيير في ما توقعه الناخب من برنامجي الحزبين التقليديين. الطريف أن كليغ هو الآخر أصبح جزءا من المؤسسة السياسية، وسمعنا الصياح في اليومين الماضيين من زعماء الأحزاب الثلاثة (وليس الحزبين الكبيرين) بأن التصويت لحزب الاستقلال هو احتجاج على المؤسسة السياسية التقليدية واحتجاج على ازدياد عدد المهاجرين الوافدين.
فات زعماء الأحزاب الثلاثة أن نظام الدوائر يعني أن النائب الذي يفقد ثقة ناخبيه سيفقد وظيفته ومصدر رزقه في الانتخابات العامة، وبالتالي فإن لقاء النائب أسبوعيا مع ناخبيه يجعله في موقع أفضل لقياس الرأي العام في دائرته ورغبات ناخبيه من أي جهة أخرى. ولذا فانتقاله من حزب إلى حزب هو انتقال منه مع الكتلة الأكبر من أبناء الدائرة، حفاظا على وظيفته.
أبناء الدائرة يخشون على أرزاقهم ومستوى الخدمات من تدفق المهاجرين من بلدان الاتحاد الأوروبي الذين لا يكلفون المجتمع أعباء كبيرة على الخدمات فحسب بل يعملون بأجور أقل من السكان المحليين، وبالتالي يختل الميزان الاقتصادي الاجتماعي لغير صالح أبناء الدائرة بسبب قوانين ولوائح الاتحاد الأوروبي التي لا يستطيع البرلمان المنتخب تغييرها لأنها تصدر من بروكسل. الخيار الوحيد المتاح هو حزب الاستقلال؛ فالأحرار الديمقراطيون ملتزمون بالفيدرالية الأوروبية، والسؤال هو: إذا كانت الطبقة العاملة هي الأكثر تضررا من المهاجرين ومن سياسة الاتحاد الأوروبي، فلماذا لم تعط صوتها لحزب العمال الذي جاء مرشحه في المرتبة الثالثة يوم الخميس؟
السبب أن الطبقة العاملة في ربع القرن الماضي لم تعد تتكون من الكتل المتجانسة بمئات الآلاف من الأصوات في كل كتلة، كعمال المناجم، أو عمال ورش بناء السفن، أو عمال مصانع السيارات، عندما كان كل أصوات الكتلة ابنا وأبا وابن عم للعمال.
الطبقة العاملة اليوم لا تزال ملايين، لكنها ليست كتلا، بل أفراد في ورش صغيرة، أو بمفردهم في الخدمات كإصلاح أجهزة التدفئة والتكييف، أو إصلاح مواسير البيوت أو زجاج النوافذ، أو توريد السلع ونقلها.
تفكير ونشاط هذا العامل أقرب للمحافظين منه للعمال. يقترض من البنك لشراء شاحنة وأدوات العمل في البناء أو النجارة أو الهندسة الميكانيكية، وقرض لشراء منزل الأسرة. وهو يشكو من ارتفاع الضرائب ومزاحمة المهاجرين من بولندا ورومانيا وبلغاريا الذين يقدمون الخدمات نفسها والأعمال نفسها بأجر أقل لأنهم لا يدفعون الضرائب والمصاريف التي يتحملها هو بسبب القوانين الضرائبية لحكومته - ولوائح الاتحاد الأوروبي الإدارية التي تجعل منافسه الوافد في وضع أفضل ماديا، أي منافسة غير عادلة. معادلة عجز حزب العمال، حزب الطبقة العاملة تقليديا، عن فهمها.
استطلاعات الرأي تشير إلى خسارة العمال خمسة مقاعد لصالح الاستقلال في انتخابات مايو (أيار) 2015، و84 دائرة ينقسم فيها الصوت الانتخابي بين الحزبين فيفوز حزب ثالث.
الاستقلال يهدد بالفوز بسبعة مقاعد أخرى من المحافظين، ويهددهم بقسم الأصوات في نحو مائة دائرة.
أرقام ستجعل من المستحيل على حزب واحد تشكيل حكومة بمفرده، وقد نجد أصغر الأحزاب ممسكا بمؤشر الميزان لتشكيل الحكومة في مايو 2015.