محمد رُضا
صحافي متخصص في السينما
TT

التواضع من صلب الفن

سمعت وشاهدت على التلفزيون، الذي قلّـما أكترث له، فنانا يرفع أصبع الشهادة ويقول: «أنا لا أرضى أبدا المساس بأي فنان، ولن أسمح بذلك ما حييت». موقف نبيل بلا ريب، لكن عفوا من القائل؟ فنان في مقابلة تلفزيونية، لكن هل هو صاحب قطاع أو مؤسسة أو وزير في حكومة لكي يسمح أو لا يسمح؟
أحد الكتّـاب السينمائيين رفع الأصبع ذاته في جلسة بين 3 وقال: «أنا لا أسمح بوجود رقابة على الأفلام». نعم؟ أن تقول إنك لا توافق شيء، وأن تقول إنك تسمح أو لا تسمح من موقعك بصفتك صاحب قلم في مدوّنة أو صحيفة شيء آخر، إلا إذا ما كنت عيّـنت مسؤولا في الرقابة أو وزيرا من دون علم أحد.
وستجد «الأنا» مبثوثة في تصريحات العشرات من الفنانين والإعلاميين في كل يوم. ما الذي يحدث؟ لماذا ترتفع نرجسية البعض إلى درجة لا يمكن احتمالها؟ في الكثير من الحالات يكون المتحدّث أبعد ما يستطيع عن أن يفعل شيئا حيال الموضوع الذي يتحدّث فيه، لكن ذلك لا يمنعه من استخدام كلمات وتعابير حادّة، مثل «أنا أرى»، و«أنا لا أمانع»، و«أنا أقول»، وسواها. ولو قال المتحدّث: «لو أن أحدهم سألني رأيي لقلت...» لكان به، لكنه يقفز إلى قيادة سيارة بلا عجلات ويبدأ بتصدير مواقف هو أبعد من أن يفعّـلها.
الأنا في الفن قضيّـة صعبة التحليل جدّا.
هناك عازف موسيقى أو راقص باليه أو ممثل أو مخرج مسرحي أو سينمائي أو مصوّر فوتوغرافي أو سينمائي، وكل واحد من هؤلاء يبث في عمله جزءا من نفسه. حين تعزف الهولندية جانين جانسن على الكمان (فيولين) تمزج ذاتها عبر فنها. لا يمكن التفريق بين عزفها وبين ذاتها. الأولى في الثانية والعكس صحيح.
وعندما يرسم أندريه بليشنكو لوحاته المزهوّة بألوانها، يودع ريشته ما يشعر به من حب وكل ذاته، كما كانت الحال وستبقى مع كل رسّـام موهوب ومخلص.
والحال ذاتها مع باقي أصحاب الحرف الفنية، ونستطيع أن نتحدّث طويلا وطويلا عن نماذج كبيرة بارعة في كل أنواع الفنون، يجمعها أنهم لا يخرجون عن الممارس من الفن قدر نتوء واحد. هم ذابوا فيه وامتزجوا بقدر ما الفن فيهم أساسا.
وهم ليسوا بحاجة إلى أن يستخدموا الأنا منفصلة. يتحدّث بعضنا دوما عن الفنان الأجنبي وتواضعه كما لو أن هذا التواضع عملة صعبة وبعيدة المنال. لا تدري لماذا لا يقتضون بذلك التواضع الجم. لماذا على إعلاميين وفنانين على حد سواء العيش في حيّـز ضيق لا يجرؤون على الخروج منه؟
التواضع من الفن، إذن هو فن. وغايته أن ينتمي المبدع إلى ذلك الفن الذي يمارسه ولا ينزوي عنه بموقف يعكس فاصلا بين ذاته وبين فنه، لكن هناك جوابا على السؤال الوارد في الفقرة السابقة.. هروع المرء إلى نرجسيّـته يعود إلى واحد من هذه الأسباب: الإفلاس مما يستطيع أن يعطيه، والرغبة في الوصول إلى حيث لا يستطيع، وعدم الثقة بالنفس، وفي بعض الحالات تتضافر هذه الأسباب معا فإذا به «نرجسي نموذجي».