د. حسن محمد صندقجي
طبيب سعودي واستشاري قلب للكبار بمركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
TT

حالات الغرق.. وتسليط الضوء عليها عالميا

المعرفة الطبية وواقعها على النطاق العالمي قد لا تكون متوافقة مع تصورات الكثيرين عن حقيقة درجة «التقدم العلمي المذهل» الذي وصلت إليه البشرية. وكثيرا ما نلحظ دهشة الكثيرين إزاء تصورهم لحجم وشكل ودقة التعامل العالمي مع مشكلة صحية ما في منطقة ما وواقع حال التعامل ذلك بتفاصيله الحقيقية. وعند اندلاع الجوائح لوبائيات الأمراض يتصور الكثيرون أن بإمكان العلم البشري والتقدم العالمي المذهل في الطب أن يتغلب عليها ويسيطر عليها في بضعة أيام، والبعض يُحسن التفاؤل ليتوقع خلال أسابيع، ولكن المأمول شيء والواقع شيء آخر.
لنأخذ مثالا لأمر لا علاقة بالأمراض الفيروسية الوبائية التي تشهد في السنوات الأخيرة ظهور أنواع منها بشراسة غير مسبوقة، دعونا نأخذ مشكلة صحية تُصنف ضمن قائمة حوادث الإصابات التي تُصيب البشر منذ فجر التاريخ، وتحديدا مثال الغرق في الماء.
الغرق Drowning وفق التعريف الطبي البسيط، الذي لا يختلف عن أي تعبير يُقدمه إنسان لا علاقة له بالعلم أو بالطب، هو حالة ناتجة عن غمر الماء للجسم بما لا يُمكّن الإنسان من تنفس الهواء، وهذه الحالة قد تتطور، عند تسببها بعدم القدرة على التنفس، إلى حد حصول حالة الوفاة. ويعلم البشر قرب الأنهار أو البحار أو بالقرب حتى من الآبار أو المسابح أن هناك خطرا يُسمى «الغرق» قد يُصيب الإنسان عند تعامله بشكل غير سليم مع كمية من الماء حوله. وعلم الطب بمفهومه الواسع هو علم متخصص في كيفية حماية الإنسان من الأمراض أو إصابات الحوادث ومعالجته حال إصابتها له.
ولذا في شأن الغرق، تضع الكتب الطبية حالة الغرق ضمن إصابات الحوادث وتتحدث عن كيفية إنقاذ الغريق والتعامل الطبي معه، وتُفرّق بين الغرق في المياه الباردة والمياه الدافئة، وتتحدث عن نوبة التشنج في عضلات مجاري الجهاز التنفسي العلوي كسبب لحالة الاختناق التي تُؤدي للوفاة وليس دخول المياه إلى الرئة وغمرها داخليا.
وأبسط ما يتوقعه الإنسان أن الطب يُجري دراسات واسعة عن حالات الغرق عالميا أسوة بالملاريا أو إسهال الأطفال أمراض القلب أو السكري. ولكن ضمن إصدارات منظمة الصحة العالمية في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) صدر وفق نص ما تقوله تحت عنوان «التقرير العالمي الأول لمنظمة الصحة العالمية عن الغرق: الوقاية من سبب رئيسي من أسباب الوفيات». وهو بالفعل التقرير العالمي «الأول» لما قد يحسبه البعض قد «قُتل بحثا ودراسة».
ووفق نص المنظمة لترجمتها العربية للخبر المتعلق بالتقرير، أضافت أن: «الغرق يودي بحياة 372 ألف شخص كل عام، وأنه من الأسباب الـ10 الرئيسية لوفاة الأطفال والشباب في كل إقليم. ومن الاستنتاجات الأخرى الصادمة التي وردت في التقرير ما يلي: يحدث أكثر من نصف جميع الوفيات الناجمة عن الغرق في العالم في صفوف الشباب دون سن 25 سنة، وتبلغ معدلات الغرق ذروتها في صفوف الأطفال دون سن الخامسة، واحتمال تعرض الذكر للغرق يزيد مرتين على احتمال تعرض الإناث». وعلقت الدكتورة مارغريت تشان، المديرة العامة لمنظمة الصحة العالمية: بقولها «وهذه خسائر لا داعي لها في الأرواح، وإن الجهود المبذولة من أجل خفض معدلات وفيات الأطفال حققت مكاسب ملحوظة في العقود الأخيرة، ولكنها كشفت بخلاف ذلك أيضا عن أسباب خفية تحصد أرواح الأطفال ومنها الغرق».
ونقلت المنظمة قول مايكل بلومبرغ، عمدة مدينة نيويورك ومؤسس مؤسسة بلومبرغ الخيرية التي مولت التقرير: «أعتقد أنكم لا تستطيعون التعامل مع مشكلة لا تستطيعون تقدير حجمها، ولم يُبذل حتى الآن أي جهد من أجل تقدير حجم مشكلة الغرق على نطاق العالم». «وكلما جمعنا بيّنات أكثر تحسنت قدرتنا على تصميم جهود الوقاية، ويُعد التقرير العالمي عن الغرق خطوة كبيرة في الاتجاه الصحيح». كما عرضت المنظمة قول الدكتور إتيين كروغ، مدير إدارة التدبير العلاجي للأمراض غير السارية والوقاية من العجز والعنف والإصابات: «إن جميع المسطحات المائية تنطوي على مخاطر الغرق، وخصوصا داخل المنازل وخارجها». «فالغرق يمكن أن يحدث في أحواض الاستحمام وفي الدلاء والبرك والأنهار والمصارف والمسابح، أثناء ممارسة الناس لحياتهم اليومية».
ومعرفتنا كبشر بالمخاطر التي تهدد سلامة الصحة لا تزال تحتاج إلى تطوير، وما نتوصل إلى معرفته عنها يحتاج إلى توثيق، وما يتم توثيقه كحقائق علمية يحتاج إلى استثمار صحيح في تحسين صحة الناس ووقايتهم من الأمراض وحوادث الإصابات.
* استشاري باطنية وقلب
مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
[email protected]