خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

حماقة الحماقات

ضج العالم قبل أيام بنبأ نجاح العلماء والمهندسين والتكنوقراط من دول الاتحاد الأوروبي، ألمانا وفرنسيين وبريطانيين، في إنزال مركبة مختبرية على سطح المذنب «فيلاي» الذي ما زال يدور حول الشمس بسرعة 18 كيلومترا في الثانية منذ ملايين ملايين السنين دون أن يتعب.
تحمل المركبة عدة أجهزة مكلَّفة فحص تربة المذنب، وبصورة خاصة ما إذا كانت طينية ومحملة بالماء. وكل ذلك ليشبع فضولية العلماء في التحقق من كيف بدأت الحياة على الأرض نتيجة اصطدام مذنب مماثل يحمل كثيرا من الماء بحيث ملأ كل هذه المحيطات والبحيرات والأنهار والبلاليع بالماء على وجه الأرض، أو بالتحديد الكرة الأرضية. وكان ذلك - كما يتصورون - قبل ملايين ملايين ملايين السنين من ظهور «داعش» و«القاعدة» على هذه الكرة الأرضية وادعائهم إقامة دولة الإسلام.
غريزة الفضولية في أهل العلم شيء مشكور، فهي التي قادتنا لاكتشاف أميركا وعلمتنا مداواة وجع الرأس بالأسبرين وأرشدتنا إلى زيارة الطبيب بدلا من زيارة الملّا. بيد أن العلماء بشر، وكبشر لهم حماقاتهم، وحماقاتهم تفوق أحيانا حماقات أهل السياسة، ومنهم من أمر بتخصيص المليارات لتمويل هذا المشروع في وقت أشرف فيه الاتحاد الأوروبي على الإفلاس والانهيار.
قبل نحو قرن من الزمن، عمد فريق آخر من العلماء إلى زيارة القطب الشمالي لاكتشاف جاذبيته وأعماق ثلوجه. عادوا إلى لندن وعقدوا مؤتمرا صحافيا للإدلاء بمكتشفاتهم. كان بين الحضور جورج برنارد شو، فرفع يده وسألهم أثناء المناقشة: «هل رأيتم هناك دواء لعلاج المايغرين؟». ضج الحاضرون بالضحك. ولكن شو الذي كان يعاني أوجاع المايغرين لم يشعر بحرج، فأضاف: ماذا يعنينا مقدار الثلج ودرجة الحرارة في القطب وعندنا كل هذه البلايا والأمراض التي تنتظر علاجا لها؟ ألم يكن ذلك مضيعة للوقت؟!
أنا لا أعاني المايغرين، ولكنني أعاني الإكزيما. ولو قدر لي أن ألتقي واحدا من هؤلاء العلماء لألقيت عليه هذا السؤال: هل عثرتم في المذنب «فيلاي» على مرهم يشفي من الإكزيما؟
لا اعتراض على عالِم يضيع حياته في التفكير عن أصل الحياة أو معنى الحياة أو نهاية الحياة طالما انحصر تفكيره في حدود بيته أو مختبراته في الجامعة. الاعتراض ينصب على تبديد الملايين والملايين من المال وجهود مئات من التكنوقراط على إرسال مختبر كامل إلى هذا المذنب النائي الذي يبعد عنا ما لا يقل عن 510 ملايين الكيلومترات لنسأل صخوره الصماء كيف بدأت الحياة عندنا هنا على هذه الأرض واستمرت حتى تمخضت عن كل هؤلاء الجهلاء الذين يضحون بحياتهم من أجل التضحية بحياة الآخرين الأبرياء؟
شيء مزعج حقا؛ أن يعاني ألوف البشر من كل هذه الأمراض التي يعانونها ونشغل أنفسنا بالذهاب إلى المذنبات والكواكب والأجرام السماوية. أليس عجيبا وأليما أن نبحث عن الماء في المذنب «فيلاي» ولا نفكر في العثور على مصادر للماء تعيد الحياة لكل هذه البلدان الجرداء الجائعة في أفريقيا؟