صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

في الذكرى العاشرة لرحيل عرفات: بعض خواطر مرحلة طويلة!

في الذكرى العاشرة لاستشهاد الرئيس والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات «أبو عمار»، أجد أن من حقه عليّ أن أذكر في هذه المناسبة المؤلمة بعض ما أعرفه عنه. كنت قريبا منه لأكثر من 30 عاما، ورافقته في رحلات تاريخية لا حصر لها؛ من بينها أول زيارة إلى اليابان، بالإضافة إلى زياراته المتكررة إلى الصين، وكوريا الشمالية، وفيتنام، والهند، وتلك الزيارة المهمة جدا إلى إيران التي هي أول زيارة لمسؤول عربي إلى هذا البلد «الشقيق» والمجاور بعد انتصار الثورة الخمينية بأيام قليلة في فبراير (شباط) 1979.
وخلافا لما كان اعتقده كثيرون، فإن السبب الرئيسي لتلك الزيارة هو الحفاظ على علاقات الثورة الفلسطينية بشيعة لبنان الذين كانوا احتضنوا هذه الثورة في وقت مبكر جدا، والذين، مع نهايات سبعينات القرن الماضي، بدأوا يتعرضون من قبل نظام حافظ الأسد - الذي كان يسعى وبقي يسعى حتى وفاته لانتزاع القرار الوطني الفلسطيني من يد منظمة التحرير - لعمليات تحريض منهجي لإخراج القوات الفلسطينية من الجنوب اللبناني، ومن المدن اللبنانية الجنوبية، خاصة صور وصيدا والنبطية.
وبالطبع، فإن «أبو عمار» أراد أن تكون إيران بعد إسقاط نظام الشاه محمد رضا بلهوي، رديفا وسندا لأشقائها العرب ومتبنية لقضاياهم الرئيسية، وفي مقدمتها وأهمها القضية الفلسطينية. هذا بالإضافة إلى إيجاد حل أخوي لمشكلة الجزر الإماراتية الثلاث: طنب الكبرى، وطنب الصغرى، وأبو موسى، التي كانت قد احتلت من قبل النظام السابق وأصبحت بمثابة شوكة في خاصرة العلاقات العربية - الإيرانية التي من المفترض أنها، على مدى كل العهود، علاقات أخوية أرضيتها التاريخ المشترك الطويل والمصالح الكبيرة المتداخلة بحكم عوامل الجوار وروابط الدين الإسلامي الحنيف.
عندما بدأت الأخبار والمعلومات تتحدث عن أن «أبو عمار» أصيب بعارض صحي خطير غير معروفة أسبابه، بادرت إلى الاتصال بالرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس (أبو مازن)، أطال الله عمره، لأسأله عن خطورة ما أصبح يعاني منه رفيق دربه الطويل. وكان جوابه: «الوضع مقلق، والأمور جدية». وطلب مني أن أتصل به لأنه، على حد قوله، «يرتاح لسماع أصوات الذين يحترمهم ويحبهم، ولأنك من بين الذين يحترمهم ويحبهم بحكم علاقات طويلة».
ترددت كثيرا قبل أن أرفع «سماعة» الهاتف وأطلب رقم «المقاطعة» في رام الله. وعندما جاءني صوته ضعيفا و«شاحبا»، قلت له وأنا أكاد أنهار باكيا: «خير يا أخ (أبو عمار).. إن شاء الله الأمر عابر كما في كل مرة». وكان جوابه الذي شعرت وكأنه رأس خنجر انغرس في قلبي: «لقد انتهت الرحلة يا حبيبي.. لقد (قدروا) عليّ يا حبيبي..». بعدها قلت كلاما لم أعد أذكره..
فهذا الرجل يعود قربي منه إلى نهايات ستينات القرن الماضي.. عرفته قائدا تاريخيا، لا قضية له إلا قضية شعبه.. قضية فلسطين.. وهو لا يصادق إلا على أساس هذه القضية، وكان سخيا بدموع عينيه عندما يفقد أحد رموز مسيرة العمر، وعندما يرى طفلا فلسطينيا أصبح يتيما بعد استشهاد والده أو والدته.
كانت تلك آخر مرة سمعت فيها صوت «أبو عمار».. هذا القائد التاريخي الذي كان العالم كله قد سمعه خلال حصار الجيش الإسرائيلي له في «المقاطعة» في رام الله وهو يهتف بأعلى صوته: «شهيدا.. شهيدا.. شهيدا». لقد رأيته بعد أيام عائدا إلى فلسطين كفنا ملفوفا بالعلم الفلسطيني.. وشعبه الذي بات يشعر باليتم يستقبله بالدموع المدرارة، وبالتأكيد على الاستمرار في الكفاح وتقديم الشهداء حتى تحرير فلسطين وحتى تخليص القدس والمسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة.
في ذلك اليوم الأسود المحزن، استعرضت شريطا طويلا..
لقد التقيت «أبو عمار»، الذي كنت شاهدت صورته للمرة الأولى في 1968 غلافا لإحدى المجلات الأميركية، للمرة الأولى في منطقة الأغوار الأردنية، وكان يومها في ذروة عطائه العسكري. ولقد التقيته بعد أيام في اجتماع لقيادات التنظيمات الفلسطينية كنت قد دعيت إليه بصفتي رئيس الاتحاد العام لطلبة الأردن، لمناقشة القرار الذي كانت اتخذته الحكومة الأردنية بتطبيق «خدمة العلم» على الشبان الأردنيين. وكان رأيي أنه يجب تأييد هذا القرار ودعمه. وكانت المفاجأة أن ياسر عرفات قد خالف معظم زملائه الذين كانوا حضروا ذلك الاجتماع وأيد ما قلته.. فكانت تلك هي بداية علاقتي به التي استمرت حتى وفاته رحمه الله.. والتي تحولت إلى ذكريات من بينها هذا الذي أكتبه الآن.
كنت أحد الذين رافقوا «أبو عمار» خلال رحلة الخروج من بيروت بعد صمود أسطوري استمر زهاء 90 يوما، كان مشروع شهادة في كل لحظة من لحظاتها. وأذكر أنه بعد وداع قادة الحركة الوطنية، ومن بينهم وليد جنبلاط ومحسن إبراهيم وجورج حاوي وإنعام رعد، بقي واقفا على «سطح» السفينة الإيطالية التي نقلته إلى العاصمة اليونانية أثينا والتي كانت محروسة بطرادات وقطع بحرية أميركية وإيطالية وسوفياتية.. كان في حقيقة الأمر متعلقا وجدانيا ببيروت، وكان يحاول «الشبع» من رؤيتها قبل أن يودعها الوداع الأخير. وخلال رحلة المغادرة هذه التي استمرت لنحو 3 أيام طرحت عليه أسئلة كثيرة من بينها: لماذا إلى تونس؟ قال: «هربا بالقرار الوطني الفلسطيني». وعندما سألته ممن؟ قال وصوته يتفجر غيظا وغضبا: «من حافظ الأسد.. ألا تعرف هذا؟».
لدى وصوله إلى أثينا كان في استقباله على رصيفها صديق الشعب الفلسطيني آندرياس باباندريو وإلى جانبه فاروق القدومي الذي كان غادر بيروت قبل وصول القوات الإسرائيلية. وفي أثينا كان في انتظاره ممثل منظمة التحرير في مدينة طرابلس الليبية (أبو طارق الشرفا) بعرض من القذافي باستضافته هو وقواته على أرض «الجماهيرية»، لكنه رفض بطريقة لبقة. وبعد 3 أيام في تونس انتقل إلى مدينة فاس المغربية، وكنت رفيقا له في هذه الرحلة أيضا، حيث كان في استقباله بقاعة الشرف في مطارها كل القادة والرؤساء العرب باستثناء حافظ الأسد.
لقد مرت 10 أعوام على رحيل ياسر عرفات الذي استطاع الإسرائيليون الوصول إليه بعد مطاردات طويلة، والذي تعرض لمحاولات اغتيال كثيرة، أعرف منها أن المخابرات الإسرائيلية كلفت طباخه الخاص، بعد تمكنها من تجنيده، بوضع سم على هيئة حبات أرز في طعامه، لكن ذلك الطباخ انهار في لحظة التنفيذ واعترف بكل شيء، لكن صلاح خلف (أبو إياد) خالف رغبة «أبو عمار» بالعفو عنه وقام بإعدامه بالرصاص في إحدى زوايا جامعة بيروت العربية التي كانت قد تحولت إلى مبنى عسكري خلال حصار بيروت في عام 1982.
إن هذه كانت إحدى المحاولات، أما المحاولة الأخطر، فهي عندما عاد من تونس إلى دمشق في طريقه إلى مدينة طرابلس اللبنانية، التي كان يريدها بديلا لبيروت، حيث وصلت إليه معلومات من مسؤول سوري كبير تحذر من أن هناك عملية معدة لاغتياله على الحدود اللبنانية - السورية قرب مدينة حمص. فكان أن أرسل أبو عمار موكبه في اليوم والزمن المحددين من قبيل الاختبار، وربما لأنه لم يصدق هذه المعلومات التي جرى تسريبها إليه، فكان أن تعرض هذا الموكب لنيران كمين مسلح مما أدى إلى مقتل 8 من المشاركين فيه، وذلك بينما كانت طائرة الرئيس الفلسطيني السابق تغادر مطار العاصمة السورية في طريقها إلى العاصمة التونسية.