عصف «الزمن الرقمي» يفرض سطوته على المبدعين

«تويتة» الشعر وأفلام «الموبايل».. حداثة اضطرارية تقفز خارج النص

عصف «الزمن الرقمي» يفرض سطوته على المبدعين
TT

عصف «الزمن الرقمي» يفرض سطوته على المبدعين

عصف «الزمن الرقمي» يفرض سطوته على المبدعين

الورقة والقلم لكتابة الشعر والقصة. الريشة والألوان والقماش المشدود لفن البورتريه. الكاميرا الضوئية لفن التصوير الفوتوغرافي. كاميرات السينما الضخمة لصناعة الأفلام. أشكال تقليدية فرضت قيودها الصارمة على صورة الإبداع. منذ مئات السنين، كانت تلك الأشياء هي القواعد الأولى، وكان على المبدع أن يلتزم بها إذا أراد أن يصل إنتاجه إلى الجمهور. وعلى المستوى الشخصي، ربما كان الكاتب أو الرسام أو المصور يشعر بـ«لذة» منقوصة إذا استبدل بواحدة من تلك الأدوات أخرى حداثية في أي من أعماله.
لكن «عصرنة» الدنيا مع دخول العالم القرن الحادي والعشرين، فرضت آلياتها على كل أشكال الحياة. ودخل التطور الرقمي على كل مناحي اليوم للبشر. فهل كان يمكن أن يتجاوز ذلك الاقتحام اللامحدود مجالا من المجالات؛ ومن بنيها الإبداع؟
ربما كان فن «التدوين» الإلكتروني، هو أول من فتح الباب، في عالم اليوم، أمام رقمنة الثقافة بشكل عام. إذ كانت المدونات على فضاء الإنترنت بديلا مقبولا لعدد من ناشطي الشباب ومثقفيهم، الذين لم يجدوا مجالا أو سبيلا إلى من يحتوي كتاباتهم على الورق، فبحثوا عن بديل متاح للجميع في فراغ الشبكة العنكبوتية لنشر كتاباتهم.
ولم يكن غريبا أن تلقى هذه الموضة الجديدة رواجا فائقا بين أبناء الجيل نفسه، نظرا لكونها ثقافة سريعة ومتاحة مجانا، تتمرد على التقليدية وترسخ لمفاهيم العصر وشبابه، خصوصا في ظل مصاعب أخرى اقتصادية واجتماعية ساهمت في خنق صناعة الثقافة بآلياتها التقليدية، إذ شهدت صناعتا السينما ونشر الكتب في مصر، على سبيل المثال، كبوة هائلة خلال السنوات الـ10 الماضية، وجاءت أحداث الربيع العربي ربما لتطلق «رصاصة الرحمة» على مثل تلك الصناعات.
رواد الإبداع التقليديين هاجموا، في البداية، أشكال الثقافة الجديدة، متهمينها بـ«الدخيلة» «السطحية». لكن شيئا فشيئا، ومع تغول سيطرة الرقمنة على مجريات الحياة، بدا لافتا تراجع الدور السابق لوسطاء النشر ومصاعب نشر الإبداع في ظل الضغوط الاقتصادية. وانحنى كثير من المبدعين أمام العاصفة، واندمجوا معها ليصير بعضهم، خلال السنوات القليلة الماضية، «ديجيتال» بمفهوم شباب هذه الأيام، لنشهد «قصيدة الـ(تويتر)»، و«قصة الـ(فيسبوك)»، و«أفلام المحمول»، و«بورتريه الغرافيتي»؛ وغيرها من الأشكال الحداثية للفنون التقليدية.
«الحداثية» والتأقلم معها، ربما ليست في حد ذاتها، ظاهرة جديدة، وإن كان المصطلح نفسه اشتق حديثا. فقديما أطلق على الفنان المصري محمد عبد الوهاب لقب «موسيقار الأجيال»، نظرا لقدرته الفائقة على التأقلم والانتقال بين فجوات العصور الموسيقية بسلاسة بالغة ليصير دائما من الرواد، ولم تشعر الأجيال القديمة بـ«تغريبة» عميقة في هذه الانتقالات.
على المنوال نفسه، وبعد عدد من دواوينه اللافتة المطبوعة، انخرط الشاعر المصري جمال القصاص في فضاء الـ«فيسبوك» و«تويتر»، يتنقل على سطحه بومضات شعرية خاطفة، تظهر التعليقات عليها حجم التفاعل والترحيب بذلك المسلك.
عن تجربته هذه، يقول القصاص لـ«الشرق الأوسط»، إن «كل فنون الميديا الحديثة، صنعت نقلة في علاقة التواصل بين المبدع والمتلقي، بعد أن ظل ذلك التواصل معضلة أساسية في اتهام الأدب بأنه بعيد عن الجماهير أو يتسم بالغموض. فقد حلت التكنولوجيا الحديثة هذه العلاقة، وأصبح هناك ما يمكن أن نسميه بالمتلقي الفوري، الذي يتابع الإبداع لحظيا وبشكل مباشر».
كما يرى القصاص أن الوسائط الحديثة قلصت المسافات بين المبدعين أنفسهم، وسمحت للمبدع أن يتعامل مع نظرائه في شتى أنحاء العالم، وبأي لغة، باستخدام التكنولوجيا، وهو ما ينعكس إيجابيا على الإبداع، خصوصا أنها أسهمت في تجاوز الحدود الشكلية الخاصة بمواصفات الأدب، لتجعله عابرا للحدود والنوعية. كما انعكست هذه الأدوات على طبيعة النص الأدبي نفسه، الذي أصبح يكتب بلغة أكثر سلاسة وبساطة وخالصة من التعقيدات اللغوية، لكي تصل بسرعة أكبر إلى المتلقي.
أما عن الأبعاد السلبية، فيشير القصاص إلى تأثر دور النشر، حيث أصبح المبدع في غنى عن اللجوء إليها كوسيط، بعد أن أصبح متاحا له أن يضع إنتاجه ليقرأ مباشرة، خصوصا أنه أصبح هناك بعض المواقع التي تقوم بشراء المنتج الثقافي مقابل ربح مادي يعود على المبدع نفسه.
وكذلك يرى القصاص أن تلك الأدوات لا تستطيع أن تخلق «الناقد المتخصص»، لأنها تؤدي - غالبا - إلى التشتت في «البانوراما الكبيرة» التي تخلقها، كما أن المتلقي لا يستطيع المكوث طويلا أمام النص أحيانا، وإذا لم يعجبه يغادره متعجلا، لأنه اعتاد على نوعية سريعة من القراءة. إضافة إلى أن تلك الظاهرة، تحد من مقومات الخصوصية البيئية للإبداع بشكل عام، حيث لا يستطيع المبدع التوغل في بيئته حتى يفهمه أبناء البيئات الأخرى التي أصبح يتواصل معها. ويخلص إلى القول: «بشكل عام، هذه الظواهر لا تساعد على ترسيخ ما يمكن أن نسميه بالشكل الأدبي، لأنها تفرز شكلا عابرا على السطح لا يحفل بالعمق».
الأدب ليس وحده في قائمة «عاصفة الرقمنة»، فالسينما أيضا دخلت على هذا الخط، ودخلت إلى الدنيا ظواهر مثل «أفلام المحمول» التي يتم تصويرها فقط بكاميرات الهواتف المحمولة، ويتم عرضها على شاشاتها. وصار يقام لها عدد من المسابقات، ربما لا تزال محدودة في العالم العربي، ولكنها منتشرة في الغرب بشكل أوسع وأكثر إقبالا.
وعلى الرغم من عدم مشاركة المبدعين التقليديين في إنتاج فعلي في هذه الظاهرة حتى الآن، إلا أن كثيرا من هذه المسابقات والمهرجانات، أصبح يقام تحت رعاية عدد من هؤلاء المبدعين في إطار المشاركة في لجان التحكيم.
ويقول الناقد والخبير السينمائي البارز يوسف شريف رزق الله، إن «رأيي قد يكون تقليديا، باعتباري مشاهدا للأفلام منذ نحو 50 عاما. فمن وجهة نظري أن الفيلم، أيا كان الوسيط الذي تم استخدامه في التصوير، يجب أن يشاهد في قاعة سينما، أي على شاشة كبيرة وفي وسط مشاهدين آخرين، حتى يحدث التفاعل والتأثر والتأثير».
ويرى رزق الله، أن مشاهدة الفيلم يجب أن تحظى بـ«طقوس»، وتتم من دون منغصات أو مؤثرات تفصل التفاعل، منتقدا على سبيل المثال، «فترة الاستراحة» وسط الفيلم في دور العرض المصرية، التي وصفها بـ«المفزعة والمزعجة»، حيث يتم قطع العرض في منتصفه، أو حتى في منتصف مشهد من دون مراعاة لتواصل التفاعل مع الفيلم.
أما فيما يتعلق بالوسائل الحداثية، مثل الموبايل، فيقول رزق الله: «بدأت المسألة تنتشر بشكل ما، ومن الممكن أن تفرز مخرجا واعدا يثبت موهبته، لينتقل بعد ذلك إلى العمل بشكل احترافي. لكن لا أعتقد أنه يمكن أن يكون هناك متعة في مشاهدة فيلم على شاشة صغيرة مهما كبر حجمها. وقد تجد هذه الظاهرة صدى لدى البعض ممن لا يمثل لهم الأمر فارقا في مشاهدة العمل السينمائي بقواعده التقليدية. وهي قد تكون تطورا تكنولوجيا. لكن في رأيي شخصيا، فأنا غير مقتنع أنها من الممكن أن تؤدي إلى وسيلة مشاهدة للعمل الفني».
لكن «قواعد السوق» الحاكمة لعلاقة «المنتج والمستهلك» التقليدية في «صناعات الثقافة»، كثيرا ما دفعت المبدعين والصناع إلى تجاوز التقليدية، وكمثال صارخ على ذلك، فإن المشهد التقليدي لرواد المواصلات العامة في كل شوارع أوروبا، تغير خلال الأعوام الـ5 الماضية بشكل صارخ، حيث كان من النادر أن ترى بينهم من لا يحمل كتابا أو جريدة، والآن من النادر ألا ترى بينهم من لا يحمل جهازا إلكترونيا سواء «محمول» أو «تابلت». وهذا ما دفع الكثير من أساطين النشر في الغرب إلى توجيه كثير من جهودهم إلى المنصات الإلكترونية لجذب ود هذه الشريحة الطاغية من الجمهور.
وحول ما إذا كان من الممكن أن تدفع السينما ورواد هذه الصناعة ومبدعيها إلى الدخول إلى حيز «الرقمنة» إرضاء لرغبات وأذواق المتلقين، وتغير «ذوق الثقافة» بشكل عام، يقول رزق الله: «لا أعتقد أن هذا من الممكن أن يحدث، لأن السينما خلال نحو 100 عام كان مكانها دور العرض. مهما حدث من تقدم تكنولوجي، قد ينتشر أكثر أن تشاهد الأفلام والإبداعات من خلال وسائط أخرى؛ لكن ستظل دور العرض هي المكان المفضل لعرض الأفلام. فحين ظهر التلفزيون مثلا في الخمسينات، كانت هناك تخوفات من انصراف الناس عن السينما والاكتفاء بالمشاهدة المنزلية، لكن هذا لم يحدث، بل أسفر ذلك عن تطورات في السينما ذاتها، مثل السينما سكوب، وصولا إلى الآي ماكس، لكنها ظلت موجودة بشكلها الأول، فقط استفادت من التقدم».
وعلى الرغم مما تتعرض له الثقافة التقليدية من أزمات وكبوات، تتعلق باقتصادات الإنتاج ودعم المبدعين وأمزجة الأجيال الحديثة، لا يرى رزق الله أن المستقبل مغلق تماما أمام عودة تلك الأشكال إلى الحياة، مع الصعود المتوازي للعصر الرقمي. بل على العكس، فإنه يتفاءل «بوجود بشائر كثيرة تبث الأمل في وجود إنتاج جيد في مجال صناعة السينما في عام 2015، وهناك عدد من الأفلام التي تم تصويرها بالفعل، أو هي قيد التصوير، ذات المستوى المرتفع، وهي مؤشرات ونماذج جيدة للمستقبل القريب».
وفي النهاية، تظل العلاقة بين التقليدية والحداثة علاقة «شد وجذب» أشبه بطرفي المقص، لكن نقطة الربط الثابتة بينهما دائما هي المبدع نفسه.



أوانٍ فخارية من مدافن دار كليب الأثرية في البحرين

قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
TT

أوانٍ فخارية من مدافن دار كليب الأثرية في البحرين

قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية

تحوي مملكة البحرين سلسلة من المقابر الأثرية، تُعرف باسم «تلال مدافن دلمون»، سُجلت ضمن قائمة التراث العالمي التابعة لـ«منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة» (اليونيسكو) في صيف 2019. تضم هذه السلسلة في الواقع مجموعات عدة من المدافن، منها مجموعة تقع في أقصى جنوب مدينة حمد، وتجاور قرية دار كليب التي تبعد عن المنامة نحو 25 كيلومتراً. بدأ استكشاف «مدافن دار كليب» في عام 1965، حيث عمد باحثان يعملان لحساب «شركة نفط البحرين» (بابكو) إلى إجراء أول أعمال المسح فيه. وصل هذا الخبر إلى البعثة الدنماركية التي كانت تعمل في هذه الناحية من الخليج خلال تلك الفترة، فباشرت دراسة الموقع بشكل معمّق. توالت مواسم التنقيب خلال العقود التالية، وأدت إلى الكشف عن مجموعات متنوعة من اللقى، منها مجموعة من الأواني الفخارية تعود إلى حقب متلاحقة من الزمن.

تحمل «تلال مدافن دلمون» اسم إقليم برز شرق الجزيرة العربية خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد، كما تشهد المصادر السومرية، وكانت جزيرة البحرين حاضرة من حواضر هذا الإقليم الوسيط الذي شكل حلقة وصل بين بلدان الشرق القديم، الأوسط والأدنى. خرج من هذه المدافن عدد كبير من القطع الفخارية تعكس هذه التعددية، منها مجموعة من القطع مصدرها حقل «مدافن دار كليب» الذي يمثّل كما يبدو الطور الأخير من تلك الحقبة الغنية. تبرز في هذا الميدان بضع أوانٍ تتميز بحلل زخرفية تبدو غير مألوفة في محيطها، منها آنية على شكل زهريّة من الحجم الصغير، كشفت عنها بعثة محليّة في منتصف تسعينات القرن الماضي، وهي اليوم من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة. يبلغ طول هذه الزهرية المخروطية 12 سنتيمتراً، وعرضها 9 سنتيمترات، وهي من نتاج القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل الميلاد، كما يؤكّد أهل الاختصاص، وتكوينها بسيط، ويغلب عليه اللون العسلي المائل إلى الأخضر الزيتي.

تُزين القسم الأعلى من هذه الزهرية شبكة من الخطوط الأفقية الدائرية، تحوي في وسطها خطاً متعرّجاً. خُطت هذه الشبكة باللون الأسود، وتقابلها شبكة مشابهة مختزلة تزيّن القسم الأسفل منها. بين هاتين الشبكتين، تحضر شبكة عريضة تحتلّ القسم الأوسط، وقوامها زخرفة نباتية متناسقة تعتمد طرازاً مكرّساً، يُعرف في قاموس الفنون باسم «بيبال»، أي شجرة التين الهندسية المقدسة. خطّت هذه الزخرفة النباتية كذلك باللون الأسود، وتتشكّل من أربعة أغصان أفقية تحمل أطرافها سلسلة من الأوراق اللوزية المرصوصة بشكل تعادلي في بناء محكم، وفقاً لنسق فني اعتُمد بشكل واسع في المناطق الشمالية الغربية من جنوب آسيا، وبات من خصائص حضارة وادي السند التي توهّجت على مدى قرون من الزمن، وبلغت نواحي عديدة من الشرق الأدنى وجنوب آسيا.

تبدو زهرية دار كليب على الأرجح من نتاج وادي السند، وتشهد للروابط الثقافية المتواصلة التي جمعت بين هذا الوادي وإقليم دلمون. لا نجد ما يماثل هذه الآنية في هذا الميراث، غير أننا نقع على قطعة تشابهها بشكل كبير، مصدرها المناطق الشرقية من المملكة العربية السعودية، وهي قطعة شبه مجهولة، قدّمت عالمة الآثار غرايس بوركهولدر تعريفاً بها ضمن كتاب لها صدر عام 1984، تناول مجموعة من اللقى الأثرية تمّ اكتشافها في هذه المناطق الشرقية.

خرجت من مدافن دار كليب كذلك مجموعة من القطع الفخارية تعود إلى الحقبة التي أطلق فيها المستكشفون الإغريقيون على جزيرة البحرين اسم تايلوس، وهي الحقبة التي تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى فترة دخول الإسلام. تُشكّل هذه القطع مجموعة من مجموعات مشابهة خرجت من المدافن المجاورة، وتحوي قطعاً تتفرّد في بعض الأحيان في تكوينها، منها قطعة من الفخار المزجّج، عُثر عليها خلال حملة محليّة تمّت بين عام 1993 وعام 1994، وهي من محفوظات المتحف الوطني بالمنامة.

صُنعت هذه الآنية بين القرن الأول والقرن الثاني للميلاد على الأرجح، وفقاً لتقنية نشأت قديماً في جنوب بلاد ما بين النهرين، وهي على شكل جرة لها عنق طويل، طولها 32.5 سنتيمتراً، وعرضها 22 سنتيمتراً. تشابه هذه الجرة في تكوينها العام جرة معاصرة لها خرجت من الموقع نفسه، وتتميّز بعروة على شكل مجسّم حيواني، تحل مكان العروة التقليدية المجرّدة من أي شكل تصويري. يصعب تحديد نوعية هذه البهيمة، والأرجح أنها تمثل كبشاً ذا قرنين مستديرين، وتشكّل امتداداً لتقليد قديم، تبدو شواهده محدودة في هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر هذا الكبش في قالب جامد تغيب عنه أي حركة ظاهرة، وتبدو قوائمه الأربع ثابتة في وضعية واحدة ثابتة، يغلب عليها طابع التحوير والتجريد. يتبع تكوين رأس هذه البهيمة هذا النسق، ويتميّز بقرنين عريضين صيغا على شكل هلالين متوازيين.


آخر ما قاله سعد الله ونوس عن «الخفقة السوداء في الرأس»

سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
TT

آخر ما قاله سعد الله ونوس عن «الخفقة السوداء في الرأس»

سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم

مصعد المستشفى لا يكفّ عن الرنين، بينما المرضى وزوارهم يخرجون ويدخلون إليه. الممرات أشبه بنفق معتم. أطباء يعاينون صورة شعاعية، قبل أن تظهر لنا الكاميرا سعد الله ونوس على سرير المرض شاحباً، متعباً، هزيلاً، وقد فقد شعره، يتناول الدواء من يد شخص إلى جانبه، وتثبّت الممرضة إبرة المصل في ذراعه.

هكذا يبدأ «الوثائقي» المعنون: «هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء»، الذي صوره المخرج عمر أميرالاي، مع صديقه الكاتب المسرحي سعد الله ونوس، قبل فترة قصيرة من وفاته يوم 15 مايو (أيار) 1997، وعرض يوم 28/11، في سينما متروبوليس ببيروت.الكلمة الأخيرةالفيلم بمثابة وصية، أو لنقل الكلمة الأخيرة التي تركها لنا هذا الكاتب الكبير بنصوصه كما بانخراطه الكامل في القضايا التي أحاطت به. منذ البدء يصارح أميرالاي سعد الله ونوس، الواقف «على حافة تخوم رجراجة بين الحياة والموت»، أنه جاءه ليستنطقه كشاهد على مرحلة «لتكون لسان حال جيلنا في هذا الصراع».

الفيلم سجل بعد اتفاق أوسلو، ونوس متوجس مما سيأتي، مزاجه جنائزي، ليس فقط بسبب المرض، بل بسبب الحالة العامة أيضاً. ثمة شرطان للسلام لم يتحققا بالنسبة لسعد الله ونوس. أن يحصل تغيير جوهري وجذري في البنى الاجتماعية والسياسية في إسرائيل. وأن يحصل الشيء نفسه في البلاد العربية من جهة أخرى. عندها التاريخ قد يجبرنا وتحت وطأة اليأس على التغيير والتجدد. نكبة 1948 «أقولها حرفياً إن إسرائيل سرقت السنوات الجميلة من عمري، وأفسدت على إنسان عاش خمسين عاماً، مثلاً، الكثير من الفرح، والكثير من الإمكانات»، يقول ونوس في مطلع الفيلم الذي عرض في سينما «متروبوليس» في بيروت قبل أيام، إلى جانب فيلم آخر «إلِيبسِس» للمخرجة ساندرا إيشيه تتحاور فيه مع عمر أميرالاي ضمن فعالية «حواران على أهبة الموت» لـ«سينماتك بيروت».

مات «رائد المسرح السياسي»، سعد الله ونوس بعد صراع طويل مع سرطان في البلعوم كان يفترض ألا يمهله أكثر من ستة أشهر بحسب الأطباء، لكنه بقوة الكتابة تمكن من المقاومة خمس سنوات. ومن حسن حظنا أنها كانت من أغزر فترات حياته إبداعاً، كتب خلالها أروع مسرحياته، وشارك في هذا «الوثائقي» البديع الذي تحدث خلاله عن العلاقة العضوية التي ربطته بالقضية الفلسطينية، وأحداث المنطقة كيف عاشها بروحه وضميره ووجدانه، حتى لتشعر وهو يتحدث أن المآسي التي مرّت نهشت جسده، حتى أودت به، وهذا ما يعتقده هو نفسه.

عمر أميرالاي

أميرالاي الساخر حد البكاء بقدر ما يبدو سعد الله ونوس حزيناً ومكفهراً، نرى صديقه عمر أميرالاي حين تحاوره المخرجة الفرنسية، في الفيلم الثاني، ساخراً هزلياً بمرارة، حتى تختلط الدموع بالقهقهات. ويجيب على الأسئلة باعتباره يعيش في عام 2030 خاصة وأن كل التوقعات في الخمسين سنة الماضية، حصلت، ولم يعد من مكان للخيال. لقد أصبح كل شيء واقعاً، وما سيحدث غداً نعرفه اليوم. فهو كسوري - كما يقول - يعيش خارج الزمان والمكان. والسوريون واللبنانيون يتقاسمون الشيء نفسه. فهما توأمان سياميان لا يوجد جرّاح يمكنه أن يفصل مصير أحدهما عن الآخر، المقرون بـ«اليأس».

«أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء» (1997) يكتسب أهميته من حيث أنه اختصار لوجع جيل كامل في ساعة سينمائية مكثفة. تبدأ من نكبة 48 حيث فتح ونوس عينيه على قصة شابين من قريته «حسين البحر» تطوعاً في جيش الإنقاذ، ليحررا فلسطين من الذين جاءوا ليحتلوها. كان ترقّب مغمّس بالرهبة والخوف على مصيرهما. لكن الشعور تطور بمرور السنوات: «كنا نكبر وتكبر القضية معنا».

يسير الفيلم على وقع نقاط المصل وصوتها وهي تتدحرج ببطء إلى عروق ونوس. «كنا بلاداً فقيرة» لكن مع كل الهموم اليومية الكثيرة «كنا نحمل هموم القضية وتحولاتها على كواهلنا النحيلة، المتعبة».هزيمة 1967 لحظة حاسمة بعد أن استقر في الأذهان عبر سنوات الكذب والتدجيل أن نكبة 1948 كانت نتيجة الخيانة والأسلحة الفاسدة، وأنها لم تكن أبداً بسبب ضعف القدرة القتالية عند الجندي العربي. «زرعوا في أذهاننا أن مسألة هزيمة إسرائيل هي مسألة ممكنة، في أي لحظة».لذلك جاءت هزيمة 67 مدويّة. «لم أتصور أن القوات العربية في مصر بالذات، وكذلك في سوريا هي من الضعف والتفكك إلى الحد الذي بدت فيه خلال الأيام الستة». وعدت الأنظمة العربية بأنها ستحمي الوطن وأنها المؤهلة للقتال، ولم تفعل شيئاً إلا مراكمة الهزائم.

البكاء مع بلوغ النهاية مشاهد استسلام الجنود كانت مؤلمة. «الصدمة حادة وعنيفة، إذ أحس الجميع أنهم مطعونون بكبريائهم، أنهم مهانون حتى العظم». مشاهد تتخلل المقابلة، منها الأطفال المشردون في الخيام، يأكلون الخبز اليابس مع الشاي، عبد الناصر يعترف بمسؤوليته بعد الهزيمة ويتنحى، جنود إسرائيليون يقصفون بالطائرات، جنود عرب يستسلمون. تتالى المشاهد التي تدعو كلها لمزيد من الانكسار.يكاشفنا ونوس وكأنما يستعيد اللحظة حية. عندما تأكدت الهزيمة «شعرت أنني سأموت في تلك اللحظة، شعرت أنني أختنق.» بكى وبكى، وشعر أنها النهاية. وأن عمراً قد انتهى، وأن التاريخ قد توقف، وأن وجوده قد انطوى.

أهمية حرب 73 أنها كشفت بعد هزيمة ساحقة، أن إسرائيل ليست حصناً منيعاً لا يمكن مسّه، وليست تلك الدولة غير القابلة لأن تجرح وتخسر معارك. «لذلك صفقنا كثيراً. عندما قامت حرب 1973. مجرد شعورنا بأن جنودنا يستطيعون أن يقاتلوا، أعاد لنا شيئاً من الثقة المضعضعة والمعدومة بالذات».

لكن هذه الحرب، من ناحية أخرى، في رأي ونوس، أجهضت الفوران المبشّر بعد 67، وربما أنها كانت في ذهن بعض من شاركوا فيها مقدمة لما أتى بعدها.لم يبقَ سوى الانتحارحين زار أنور السادات إسرائيل أصاب ونوس الذهول. جلس وكتب «أنا الجنازة والمشيعون معاً». كان ذلك آخر نص، ومن بعده التزم سعد الله ونوس الصمت. كان متوتراً ولا يستطيع السيطرة على نفسه بعد أن أنهى كتابة ذلك النص. «تناولت حبة النوم، وحاولت أن أخرج من حالتي. بعد ساعتين أو أقل استيقظت أشد توتراً وضيقاً وكانت الظلمة شاملة أمامي. في تلك الليلة أقدمت على محاولة الانتحار الجدية».

في فترة الصمت الطويلة المغمسة بالاكتئاب، أمضى معظم وقته في القراءة والتأمّل، وفي مواجهة أسئلة التاريخ الموجعة، إلى أن أنعشت مشاعره انتفاضة 1989 وحفزته على كسر الصمت. في تلك السنة بدأ يخطط لكتابة مسرحيته «الاغتصاب». لم يكن غريباً أن يكسر صمته بمسرحية تتناول الصراع العربي الإسرائيلي، وتحاول تحليل بنية النخبة الحاكمة في إسرائيل.

عندما راودته فكرة المصالحةنهاية المسرحية، أثارت الجدل، لأنها تضمنت حواراً بينه وبين طبيب نفسي إسرائيلي، يردد طوال المسرحية مقتطفات من سفر إرمية مستنزلاً اللعنات على السياسة العدوانية للنخبة الحاكمة في إسرائيل، والتي لا تؤدي فقط إلى الإجهاز على الفلسطيني، وإنما على تدمير الإنسان اليهودي أيضاً.

يعترف أنه في تلك اللحظة، كان يفتح باباً على الصلح، وأن إسرائيل في مسرحيته لم تعد حُرُم. «مجرد أن أقدم في المسرحية شخصية يهودية إيجابية تحتج على ما يحدث، وعلى ممارسات (الشين بيت) إزاء الفلسطينيين وعمليات التعذيب التي يقومون بها، مجرد أن أقدم شخصية من هذا النوع إنما يحمل في طياته تعاطفاً مع الإسرائيليين».

المشكلة في البلاد العربية أيضاً، بهذه البنى المتخلفة التي لم تحدّث و«تجعل من شعوبها كماً بشرياً مهملاً» حيث لا يجد المواطن أمامه سوى أن «يطأطئ رأسه».

العلاقة بين القصف والسرطانيعتقد سعد الله ونوس أن ثمة علاقة مباشرة بين حرب الخليج التي أجهزت على بقية الآمال الموجودة لدى العرب، وبدء شعوره بالإصابة بالورم أثناء الحرب، وخلال القصف الجوي الوحشي الذي كانت تقوم به الولايات المتحدة الأميركية ضد العراق. ثم جاءت مفاوضات مدريد بعد هزيمة العراق التي يصفها بـ«الاستسلام» لأنها «لا يمكن أن تكون بداية لسلام حقيقي». الاتفاقات التي تمخضت عنها «ما هي إلا فصل من فصول هذه الحرب الدائرة التي يمكن أن تطول بيننا وبين إسرائيل».

إسرائيل غدت حقيقة تاريخية، غير أنه بقراءة متأنية يستنتج أنها لا تملك مقومات الاستمرار، هي مشروع خاسر. «لا حياة لها إلا إذا اندمجت كجزء في الكل، لا كمخفر مهمته أن يدمّر المنطقة، ويجعلها ممرغة باستمرار في الهزيمة والتخلف والتفتت».يسأله أميرالاي: «هل سنموت، وفينا العلة التي اسمها إسرائيل؟»يجيب: «على الأقل بالنسبة لي شخصياً، من المؤكد أن هذا سيحدث».

أميرالاي رحل هو الآخر عام 2011. ولم يشكّ ونوس بأن جيله كله سيمضي و«في رأسه تلوح هذه الخفقة السوداء الشبيهة بعلامة، هي علامة الخيبة التي تذوق مرارتها على مدّ عمره. لأن إسرائيل ستكون باقية حين يذهب جيلنا إلى نهاية حياته».


علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
TT

علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)

أعلن علماء الآثار البحرية، الاثنين، اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية.

ووفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية، عثر غواصون على هيكل السفينة الذي يزيد طوله على 35 متراً وعرضه نحو 7 أمتار، تحت المياه في ميناء جزيرة أنتيرودوس، حسبما أعلن المعهد الأوروبي للآثار البحرية في بيان.

ووجدت على السفينة كتابات يونانية «قد تعود إلى النصف الأول من القرن الأول للميلاد» و«تدعم فرضية أن السفينة بُنيت في الإسكندرية».

وأضاف المعهد ومقره في الإسكندرية أن السفينة «كانت على ما يبدو تضم مقصورة مزينة بشكل فاخر، وكانت تُشغّل بالمجاذيف فقط».

أسس الإسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية عام 331 قبل الميلاد. وضربت سلسلة من الزلازل وأمواج المد ساحلها ما أدى إلى غرق جزيرة أنتيرودوس التي اكتُشفت عام 1996.

على مر السنين، عثر الغواصون على تماثيل وعملات معدنية وكنوزاً أخرى في الجزيرة الغارقة، بعضها معروض في المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية.

ونشر مدير المعهد الأوروبي للآثار البحرية فرانك غوديو، مؤخراً، تقريراً عن أنتيرودوس ومعبد إيزيس فيها، استناداً إلى عمليات استكشاف تحت الماء أُجريت منذ تسعينات القرن الماضي.

وأكد المعهد أن الأبحاث المستقبلية حول الحطام المكتشف حديثاً «تبشر برحلة شيقة في حياة مصر الرومانية القديمة وديانتها وثرواتها ومجاريها المائية».

والإسكندرية موطن لآثار قديمة وكنوز تاريخية، لكن ثاني أكبر مدينة في مصر عرضة بشكل خاص لتداعيات تغير المناخ وارتفاع منسوب مياه البحر، إذ تغمرها المياه بأكثر من 3 مليمترات كل عام.

وتقول الأمم المتحدة إنه في أفضل السيناريوهات سيكون ثلث الإسكندرية مغموراً بالمياه أو غير صالح للسكن بحلول 2050.