سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

مائة عام وأربعون يوما

احتفى لبنان في يوم واحد بمئوية الشيخ عبد الله العلايلي وأربعين السيد هاني فحص. إليك بعض التفاصيل: الأول إمام من أئمة اللغة عبر العصور، سنّي أرخ للحسين، متدين، شارك في تأسيس الحزب الاشتراكي، مرجعي، أو مرجع، عُرف بـ«الشيخ الأحمر». باختصار، علم من أعلام النهضة في القرن الماضي. هاني فحص، كان المرجع الشيعي الذي حارب في صفوف السنّة، إذا جاز التعبير. وفي المهرجان الخطابي الذي أقيم له لفت الناس أن السيدة أم جهاد، أرملة الشهيد خليل الوزير، هي التي ألقت كلمة الرئيس محمود عباس.
اعتبر العلايلي في حياته خارجا على الخط السني العام، واعتبرت «الشيعية السياسية» هاني فحص متمردا عليها، مغردا خارج سربها. ولو أن العلايلي لقي تفهما أكثر، وفحص لقي قلبا أكبر، لما كان أبرز حدث في تاريخ الأمة اليوم أن يتصدر «داعش» - وتنفذ - حكما بالإعدام ركلا.
العلايلي، في علمه الديني لم تحدّه مؤلفاته، وفحص في معرفته التي قوبلت بالنبذ، علامتان من علامات الارتقاء التي تقابل بالسقوط. بالنسبة إليّ، كلبناني، كان العلايلي أرزة العلوم والكِبَر. وكم شعرنا أن مرتبة «العلّامة» قليلة عليه. وكم شعرنا أن بيروت التي فاتها أن تقيم مجمعا لغويا مثل دمشق والقاهرة، كان هذا الشيخ المتربع على الأرض بين الكتب هو مجمعها الفريد.
وقد رأينا في «انشقاق» هاني فحص عن الخط السياسي الأكثري، توقا إلى توسيع الأكثريات وتعلية فكرها الاحتضاني. وما بين الشيخ والسيد كان هناك قاسم مشترك، هو السعي إلى حفظ عروبة الأمة بدل أن تصل إلى ما وصلت إليه اليوم من رماد ودماء ومعالم مرعبة ومخجلة.
كانت مفاهيم اللغة وقواميسها في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين قد ازدهرت في لبنان على أيدي المسيحيين، الذين كانوا أول من جاءوا بالمطابع؛ فلما ظهر العلايلي وشلاله التراثي وفكره الحداثي، تحول كل علم لغوي إلى ظل له. وبمقدار ما أعرف، فإنني لم أعرف كمثل غناه في المفردة وعلم الجذور وعلم الفروع وأغصان المعرفة.
قد أكون مخطئا، أو مقصّرا، أو مصرا على دهشة قديمة. وسوف أظل؛ فأمثال العلايلي والشيخ صبحي الصالح والسيد هاني فحص لم يكن أثرهم فقط في الفقه واللغة، وإنما أيضا في مصالحة العصور وتنوير الديجور. وفي مرور مائة عام أو أربعين يوما حقيقة مظلمة واحدة، وهي أن لبنان الذي كان، على صغر حجمه، شرفة ومنبرا، صار حلبة ومعسكرا.