رجينا يوسف
صحافية لبنانية
TT

«الصبي السوري البطل»

كان الصبي مُلقى على الأرض بقرب مبنى أنهكته الحرب فانهارت بعض أجزائه أكواما من الأنقاض...
خرج منذ أيام إلى المشاهدين عبر وسائل التواصل الاجتماعي شريط فيديو مسجل، يظهر صبيا سوريا يتحدى رصاص القناصة بجسمه النحيل، وهو يحاول مساعدة فتاة صغيرة، يتعثر ويقع أرضا، ثمّ يعود لينهض بعد ثوانٍ ويكمل طريقه من أجل إنقاذها.
تناولت صحف عربية وأجنبية عدة، التصوير وعنونته «الصبي السوري البطل»، كما نشرت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية الخبر مرفقا بالصور والفيديو. وذكرت في نهايته أنّ جهات مستقلة ستحقق في مصداقية التسجيل.
وذكر موقع شبكة «بي بي سي» أن التسجيل ليس حقيقيا، بل صوره فريق نرويجي في مايو (أيار) في مالطا مع فريق من الممثلين المحترفين، وأراد المخرج من خلاله إثارة نقاش عن الأطفال في مناطق النزاع.
التسجيل مفبرك ولا مانع في ذلك، ولكن هذا المشهد عاد بذاكرتي إلى زمن الحرب الأهلية اللبنانية، ليظهر شبح الموت بثوبه الباهت الذابل، ولتتناهى إلى مسامعي أصوات الرشاشات وروح الخوف الذي يخنق القلب ويعقد اللسان، حينما كان الموت يقتات من بيننا في كل يوم قريبا أو صديقا.
كانت الحرب في لبنان ولكثرة الضحايا تتخم أحيانا، فتقتطع أجزاء من إنسان لتتركه بقايا عاجزة، بذاكرة حافظة لكل طلقة نار ولكل جرح حفر بجسده وشمًا لا يزيله سوى الموت.
لم تكن التكنولوجيا في زمن الحرب اللبنانية التي انطلقت شرارتها عام 1975 متقدمة كأيامنا هذه، لذا كان العالم يشاهد ما استطاعت عدسات كاميرات الصحافيين تصويره، ويغيب عنه حقائق وبشاعات كثيرة. أطالت الحرب زيارتها في لبنان وألقت جمّ حقدها على أهله، فكانت أشدّ إيلاما من محاربة العدو، الذي لا يربطهم به لا قومية ولا لغة ولا دين. ولمن لم يعايش حربا أهلية فليعلم أنّ لها بداية وليس لها نهاية.
وبعد ردح من الزمن خرج اللبنانيون من الحرب كمن يتخلص من السم بابتلاعه، فتشبثت بهم ولا تزال تحطّ رحالها عليهم بين الفينة والأخرى.
وأعود إلى سوريا، إلى هذا التسجيل المفبرك الذي لا يمتّ إلى الحقيقة بِصِلة، لكنّه في نظري يعكس ألف قصة وألف وجه لأطفال سوريا. هذه الطفولة التي تكاثفت الدموع عليها وتقاذفتها صراعات انحرفت عن مسارها، لتحشرها في زمان عشوائي أصبح مرتعا لمختلف أنواع الجماعات المتطرفة.
والعجب لمن يهتم بتسجيل ويسارع لإظهار مصداقيته أو تكذيبها، في فيلم لم ينَل الموت من أبطاله، ولا يفكر في الآلاف الذين خطفت الحرب أنفاسهم.