أحمد الغمراوي
طبيب وصحافي مصري مختص بالشؤون السياسية والعلمية
TT

حين تخاف من أمك!

هل تمتلك هاتفا جوالا بخاصية مفعلة لتحديد المواقع (جي بي إس)؟ هل لديك حساب على "غوغل"؟ أدعوك إذن لزيارة هذا الموقع قبل استكمال قراءة المقال، واختيار اظهار 30 يوما. ولا بأس بقليل من اللهو مع ما يقدمه الموقع، ثم أرجو العودة لتلقي باقي الصدمات.
https://maps.google.com/locationhistory/b/0
حسنا عزيزي القارئ، سأقص عليك قصة أخرى شخصية إلى حد ما، لكن يمكن من خلالها شرح أمور كثيرة. في إحدى زياراتي إلى القاهرة وقت أن كنت أعيش في لندن، قمت بشراء شريحة هاتف جوال من أحد الأكشاك لاستخدامها خلال اقامتي. وضعت الشريحة في هاتفي بدلا من تلك البريطانية، دون أن أسجلها باسمي، نظرا لأنها مؤقتة للغاية.
وقبل أيام من انتهاء الزيارة تلقيت على هاتفي عدة رسائل بريد إلكترونية عن موعد الرحلة وأفضل الطرق إلى المطار، وإذا ما كنت أرغب في سيارة أجرة خاصة للتوصيل وسعر تلك الخدمة، وحالة الجو في كل من القاهرة ولندن، وما إلى ذلك.. لا بأس، فلقد اشتريت التذكرة إلكترونيا، وسجلت بريدي الإلكتروني، وربما تتواصل شركات تقدم خدمات لوجستية قريبة من بعضها، فتتبادل معلومات العميل، وهذا يحدث دائما.
كما تلقيت تنبيها من هاتفي شخصيا، كما لو كنت ضبطت التنبيه عن الرحلة، بينما لم أفعل. اندهشت ولكن لا بأس، فهاتفي كان معي وقت الحجز، ودخولي كان عبر بريد "غوغل"، المرتبط حتما بجهازي وبرنامجه. لكن ثالثة الأثافي كما يقول العرب، والتي تركتني فاغر الفاه لعدة أيام، كان تلقي رسائل قصيرة على الهاتف تنبهني إلى ذات الشيء.
ومن المعروف أن الرسائل القصيرة ترتبط بشريحة الجوال وليس الجهاز، فإذا لم أكن قد سجلت تلك باسمي، فمن أين حصلت على "المعلومة"؟ المنطق الوحيد أن بمجرد وضعها في الجهاز يحدث ثمة "تعاون استخباراتي" بينهما، ولا يمكنك إخفاء أي شيء.
الموقف جعل عقلي، الذي لا يؤمن بنظريات المؤامرة عادة، لكنه "مبرمج علميا" على عدم استبعاد أي احتماليات نظرا لسابق عملي كطبيب، يقف طويلا أمامه. إذا كان ذلك يحدث معي، فماذا عن أشخاص ذوي الوزن حول العالم؛ رؤساء ومسؤولين "وخلافه"؟ وقتها فقط فهمت لماذا قال الرئيس الأميركي باراك أوباما أنه "ممنوع من استخدام أجهزة "الآي فون" بأمر من أجهزة الأمن القومي في بلاده.
كل ذلك إلى جانب حقيقة أن أجهزة الجوال على سبيل المثال هي أجهزة تنصت متكاملة، حتى بدون أن يريد أحد أن يخترق اتصالاتك.. يكفي أنك تحمل ميكروفونا وكاميرا، لديهما القدرة الفعلية (وهذا ليس تخيلا، لكن كلام تقني سليم) على تسجيل كل ما تقوم به صوتا وصورة حتى خلال نومك، وإرساله دون علمك إلى "مكان ما".
منذ سنوات، كانت هناك مقولة شائعة على أساس الدعابة: "غوغل يعرفك أكثر من أمك"، بمعنى أنك بمجرد أن تبدأ في البحث عن شيء على المحرك العملاق، فإنه يبدأ في وضع مقترحات؛ غالبا ما تكون في أولها ما يناسب ذوقك وما تبحث عنه.. وذلك بالطبع من خلال مراقبة توجهاتك وأفكارك وتاريخك في البحث السابق، لفلترة النتائج ومقاربتها إلى ذوقك، لتقديم أفضل خدمة للمستهلك؛ وهو حضرتك.
وخلال الأشهر القليلة الماضية، فإن المتابع لتطورات التقنية يكتشف أن أجهزة وبرامج الجوال الحديثة تتيح امكانات رهيبة، منها مثلا متابعة حالتك الصحية، من ضغط وسكر بالدم وتوتر "وخلافه"، وتذكيرك بمواعيد وجرعات الدواء. هذه التطورات ربما تكون مفيدة للغاية، نعم.. لكن ألا تضع البشر كذلك تحت رحمة المارد الإلكتروني شيئا فشيئا؟ ألا تفشي أدق أسرارك ومعلوماتك لجهاز لا تعلم في أي شيء سيستخدمها؟
اتذكر جيدا وجها ممتقعا لصديق عزيز حين سرقت منه حقيبته، وفيها قرص صلب يتنقل به دائما، حيث يحتوي على ملفاته المهمة.. وقوله العفوي القصير، الدال للغاية على حقيقة ما وصلنا إليه: "أحمد... أنا عمري ضاع"، ربما لم يقصدها بمعناها الذي تفهمه الآن عزيزي القارئ في سياق الموضوع، لكننا بالفعل أصبحنا أسرى للتقنية بشكل غير مسبوق، وربما مخيف، وأصبحت أعمارنا وحياتنا "ديجيتال" بأكثر مما هي "لحم ودم".
نظرية المؤامرة أحيانا ما تهاجم خلايا عقلي عنوة في ساعات الغفوة بين النوم واليقظة، فأتخيل أن الالكترونات في الأثير في مكان ما من الأرض تضحك بصوت ساخر مسموع، فلقد نجحت في أقناع الإنسان "الساذج" أنها في خدمته، ولكنها في الحقيقة تستعبده وتستخدمه كوسيلة انتقال، كما نستخدم الحمير والبغال، لكي تحصل على أكبر قدر من المعلومات.. قبل أن تعلن على الملأ سيطرتها الفعلية على هذا الكوكب.