محمد مصطفى أبو شامة
كاتب وصحافي مصري
TT

«حلاق» سوري و«قفا» مصري

يحكى في الأثر أن جدي لأمي انتُدب، وقت أن كان موظفا بمصلحة البريد العمومية عقب الحرب العالمية الأولى في عشرينات القرن الماضي، ليعمل في ريف دمشق، فانتقل وحيدا من ريف مصر إلى بلاد الشام.
وبعد أن انقضت أسابيع قليلة، لم يتحمل الجد وحدته.. فتزوج من سيدة سورية فائقة الجمال - بحسب وصف جدتي - وأنجب منها طفلين؛ ولدا وبنتا. ولسبب ما لم يرد ذكره في أي أثر عائلي، ترك جدي أسرته السورية وعاد إلى مصر بعد أن قضى عدة سنوات ينعم في بلح الشام - والوصف أيضا لجدتي - وعندما عاد للمحروسة حالت ظروفه دون العودة إلى دمشق مرة أخرى، فاستقر في حي السيدة زينب القاهري، وتزوج من جدتي التي كانت بحق هي الأخرى من فاتنات عصرها - كان جدي رجلا محظوظا في النساء - وقد ماتت «الجدة» في صدر شبابها بعد أن أنجبت منه أربع بنات و«ظابط»، وظل «الجد» من بعدها وحيدا لأكثر من عشر سنوات إلى أن مات في الستينات من ذات القرن، رحم الله الجميع.
تذكرت هذه القصة، عندما أوقعني حظي في يد «حلاق» سوري يعمل في ضاحية المهندسين، في محل حلاقة شهير، أدركت منذ اللحظة الأولى أنه مختلف عن كل الحلاقين المصريين الذين منحتهم شرف قص شعري عبر سنوات عمري الممتد، منذ أن عبر السادات بجيشه قناة السويس في عام 1973، وحتى شق السيسي قناة السويس الجديدة قبل شهور، أكثر من أربعين عاما وأنا «بيتحلق لي» غلط، هكذا أدركت من مهارة أداء هذا الحلاق السوري وتميزه وإخلاصه في عمله؛ كان يتحرك حولي برشاقة وخفة في «نص دايرة»، كأنه راقص باليه في رائعة تشايكوفسكي «بحيرة البجع»، كنت أراقبه بانبهار ودهشة، لم يقطعهما سوى سؤاله عن رأيي حول مستقبل الأوضاع في سوريا وعن موقف مصر؟ فأخبرته برأي ورثته عن الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، مفاده أن سوريا جزء من الأمن القومي المصري، وطمأنته ممازحا بأن المشكلة السورية في طريقها للحل قريبا إن شاء الله ربما قبل عشر سنوات، بعدها تركته يعمل وشردت «مع نفسي».
تذكرت حكاوي أمي في أوقات الصفا، عن خالي وخالتي السوريين، التي كانت تكررها على مسامعي بين الحين والآخر متندرة بأبيها و«فتوحاته» الدمشقية، ودون أن تدري هذه الأم الطيبة نسجت في وجدان الابن الساذج - العبد لله - حلما رومانسيا خالدا، وهو أن أصل يوما لهذا الفرع السوري من العائلة، ربما أجد لخالي أو خالتي، ابنة أو حفيدة سورية جميلة، أعيش معها قصة حب، وأسطر اسمي في «كتاب العاشقين» في صفحة مخصوصة بعنوان «أبو شامة وست الشام»، أعلم أنه اسم غير تجاري، لكنه حتما سيجد مكانه في تاريخ العشق الممنوع، خاصة مع التداعيات المستقبلية المتوقعة للعلاقات المصرية السورية، مما سيجعل للقصة جمهورها، وربما يبتسم لي الحظ وتتحول قصتي إلى دراما تلفزيونية «من أبو 90 حلقة».
أخرجني الحلاق السوري من شرودي، وهو يعتذر ويتحرك بارتباك لا يدري ما يفعل، فانتبهت لألم رهيب بدأ يسري تدريجيا أسفل رأسي ناحية «قفايا»، فرفعت يدي لا شعوريا، ومسحت مكان الألم، لأفاجأ بالدم وقد لطخ يدي.