إميل أمين
كاتب مصري
TT

أميركا.. أزمنة مثيرة للاهتمام

ما هذا الذي جرى في الولايات المتحدة نهار الثلاثاء الماضي، وهل هو مجرد انتخابات كونغرس عادية أم جرس إنذار لدخول البلاد في فترة الأزمنة المثيرة للاهتمام؟
واقع الحال يؤشر إلى حالة غضب في الرأي العام الأميركي غير مسبوقة عبرت عنها عملية التصويت الأخيرة، فقد أكد آخر استطلاع للرأي جرى قبل فتح مراكز الاقتراع بساعات قليلة أن 7 من بين 10 أميركيين غاضبون من الاتجاه الذي تسير فيه البلاد.
في مقال مثير له عبر صفحات «نيويورك تايمز» الأميركية يبين بيتر بيكر أن الأميركيين انخفضت ثقتهم في كل المؤسسات الرئيسية في الحياة الأميركية؛ الكونغرس، الجيش، المحكمة العليا، المدارس العامة، الصحف، الرئاسة، الشرطة، نظام العدالة الجنائية، الأخبار التلفزيونية.
في الأول من شهر سبتمبر (أيلول) المنصرم أجرت شبكة CNN الإخبارية الأميركية استطلاعا للرأي، أشار فيه 65 في المائة من الأميركيين إلى أن الكونغرس الحالي هو الأسوأ في حياتهم، وأن أوباما من أَضعف الرؤساء الذين سكنوا البيت الأبيض، وعليه فقد كان من الطبيعي أن تستفيق أميركا صباح الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) على واقع سياسي جديد..
عدة أسئلة تطرح ذاتها بقوة تبدأ من عند الرئيس الأميركي أوباما ذاته وهل كان حجر عثرة لسقوط الديمقراطيين من جهة ولاهتزاز صورة الرئاسة في عيون الأميركيين بشكل عام من ناحية ثانية؟
يحق لنا أن نصف أوباما بأنه رئيس الأحلام المؤجلة، رغم أن فترة الـ27 شهرا المتبقية له في البيت الأبيض لن تمكنه حكما من تنفيذ الكثير.
ظهر أوباما في 2008 كالفارس الذي تجرأ على الأمل، ممثلا ثورة على أميركا العنصرية، ورمزا لنهضة اليسار الأميركي والسلام في العالم.. لكنها أحلام ذهبت مع رياح التخبط في ظل ضبابية الرؤية في الداخل وانعدام الاستراتيجية في الخارج.
ضمن مشاهد انتخابات التجديد النصفي المثيرة جدا للاهتمام، تلك المشاعر السلبية التي بات الأميركيون يكنونها لأوباما، إلى حد أن موظفي البيت الأبيض المسؤولين عن تقديم صورة أوباما للجمهور، قدموا له النصح بأن لا يدعم أيا من المرشحين الديمقراطيين علانية.. ما دلالة ذلك؟
بالقطع كان سلوك الديمقراطيين، على هذا النحو خطير جدا، الأمر الذي مكن الجمهوريين من ترويج صورة أوباما صاحب التدابير الفاشلة، ومن ثم كان التسونامي الجمهوري نتيجة طبيعية، لمقدمات ديمقراطية، تكاد تنهار قولا وفعلا.
لماذا غضبة الرأي العام على الكونغرس الأخير؟
باختصار غير مخل، لإدراك رجل الشارع الأميركي، أن صراع سكان الكابيتول يجري برسم ديمقراطية «الأموال السوداء»، الزائفة، التي أصابت الديمقراطية الأميركية في مقتل. بات الأميركيون يدركون أن صراعات الشد والجذب طوال الأعوام الـ6 المنصرمة، لم تتجاوز المصالح الضيقة للحزبين الديمقراطي والجمهوري من جهة، وأن محور الصراع كان وسيظل لوقت طويل يتصل بمصالح البرجوازية الأميركية العليا، أصحاب الشركات والتجمعات الحاكمة الفعلية في واشنطن من المجمع الصناعي العسكري، إلى المجمع المالي، إلى لوبيات النفط، والدواء، وغيرها من البؤر المالية، التي جعلت الديمقراطية الأميركية في مواجهة تهديد ماثل وحقيقي، إذ أضحت قوة المال تطغى على سلطة ما تقرره صناديق الاقتراع في التأثير، وبات السؤال: «هل أميركا بالفعل ديمقراطية للأثرياء فقط دون الفقراء؟».
أحد تلك المظاهر المثيرة للقلق بالفعل تجلت في إضراب عشرات الملايين من الأميركيين اللاتينيين عن التصويت، أولئك الذين أصابتهم خيبة الأمل من الكونغرس الأخير، كونغرس الأغنياء، حيث الملياردير الأميركي توم بيركز يعيد اقتراحه بمنح دافعي الضرائب فقط حق الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات، ومنح الأثرياء المزيد من الأصوات لتتماشى مع حجم الضرائب المدفوعة، وقد كانت أصوات اللاتينيين تذهب تقليديا للديمقراطيين، ولهذا يفهم أحد أسباب أخفاق الحزب الديمقراطي.
إحدى اللوحات الدعائية الإعلانية التي ارتفعت ضمن حملات الجمهوريين واحدة كانت تحمل شعار Let›s Be Great أي دعونا نكن كبارا، أو عظماء، ما يحمل رغبة باطنية حقيقية، في التطلع إلى عودة أميركا مرة جديدة إلى أن تأخذ مكانتها الحقيقية، كأميركا المثالية في عيون العالم، لا أميركا المنقسمة روحها في داخلها، التي يمثلها باراك أوباما، حيث السود يشكون في أن لون بشرته أسود ولكن ليس إلى الحد المطلوب، وخبراء البيئة يشكون في أنه أخضر إن جاز التعبير، والعنصريون منزعجون لأنه من أصول أفريقية، واليمينيون يعتبرونه مسلما واشتراكيا وغير أميركي، فيما اليساريون المتطرفون، يرونه محافظا ومرتدا.
ذات مرة تحدثت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت قائلة: «الأميركيون يستحقون أن يقودوا لأنهم يستطيعون أن يروا أبعد مما يرى الناس الآخرون» غير أن السياسات الأميركية من زمن بوش المثير للاهتمام إلى زمن أوباما الأكثر إثارة تثبت غير ذلك، ما حدا بلاري دايموند أحد كبار العلماء الأميركيين في الديمقراطيات العالمية، أن يصرح في خطاب مثير له في واشنطن مؤخرا: «لا يمكن أن نكون ذوي مصداقية وفعالية في تعزيز الديمقراطية في الخارج، إذا لم نصلح ونحسن أداءنا في بلدنا».
تسونامي الجمهوريين يكشف حاجة الأميركيين إلى تطبيق المثل اليوناني القديم «الطبيب يداوي نفسه أولا»، كما يؤشر إلى أن الأمر لم يكن فقط استفتاء على أوباما ومستقبل الديمقراطيين، بل كان تصويتا على قادمات أيام أميركا التي امتلكت الحظ السيئ لترمي نردها فتحصل على عيني الأفعى، بدلا من السبعات أو الأحد عشرات كما قال فرانسيس فوكاياما بدوره مرة سابقة.