محمد رُضا
صحافي متخصص في السينما
TT

(1) هل الناقد جزء من العمل الفني؟

ليس خافيا ذلك القدر من العداوة بين النقاد والفنانين. هناك عدم ثقة متبادل بين الجانبين: الأول مستعد لأن يتّهم الجانب الثاني بالجهل. الجانب الثاني أكثر من مستعد لاعتبار النقاد طفرة لا أهميّة لها.
الحقيقة بتجرد كبير هي أن الجانبين لديهما من المبررات ما يكفي لاتساع شقّة الخلاف بينهما. في الأصل كان الأمر يتطلّب شخصا من ذات الحقل الإبداعي ليقوم بتقييم ونقد العمل الإبداعي الصادر. بذلك، كان الفيلسوف يرد على الفيلسوف، والرسّام ينتقد الرسّام، والكاتب المسرحي يقيّم الكاتب المسرحي الآخر. وفي أحيان كثيرة، كان الفيلسوف ينقد النثر أو الشعر الذي كتبه غير فيلسوف، كما فعل الجاحظ في القرن التاسع ميلادي أو كما فعل أرسطوطاليس في القرن الرابع قبل الميلاد، أو كما فعل باراتا موني في مجموعته «ناتيا شاسترا» ناقدا اتجاهات الأدب الهندي قبل نحو مائتي سنة قبل الميلاد.
وكان من المتوقّع أن يعمد فلاسفة، مثل بلاتو وليسنغ، أو فنانون، مثل ليوناردو ديفنشي أو شاعرا مثل كيتس، للانتقال إلى كرسي الناقد سواء نقد الغير أو نقد أعماله النظرية أو الفنية الخاصّة به. كان نقد المبدع للمبدع الآخر جزءا من العلاقة القائمة بين المبدعين سواء عاشا في الفترة ذاتها أو تلا أحدهما الآخر. كان الوسط الفني والثقافي يتطلّب وجود مثل هذه المساواة في القيمة والمعرفة والمكانة بين المبدع والناظر إليه. لذلك لم تكن هناك مهنة نقدية بالمعنى المتداول اليوم، أو حتى بأي معنى آخر في أي زمن.
بعض النقد كان قائما في صميم الحياة الثقافية المشتركة، كما الحال في العلاقة المهنية بين ويليام شكسبير وكريستوفر مارلو (الثاني كان أكثر نقدا للأول) لكن الكثير منه كان أكثر توسّعا في محيطه بحيث تجاوز نقد الفنان للفنان أو الفيلسوف للفيلسوف أو الشاعر للشاعر تحديدا. كمثال يكفي أن نذكر الإرث الذي تركه لنا الشاعر (والسياسي) عبد الله بن المعتز حين وضع «كتاب البديع» نقدا لمفهوم الشعر وللأعمال الشعرية في عصره (861 - 908 ميلاديا).
بعد ذلك أخذ باحثون أكاديميون، في القرن التاسع عشر، بفعل العرض والتقديم والنقد بناء على تأييدهم لمواقف أو آراء سبق وأن طُرحت وتم تداولها وانقسمت الآراء حولها. من الطبيعي أن يلي ذلك حقبة أخذ فيها باحثون غير أكاديميين بممارسة النقد الأدبي والفني والثقافي بصورة شاملة. وما تلا ذلك هو ما نحن عليه اليوم من انتشار العمل النقدي بين شرائح كثيرة من الأوساط والميادين المختلفة. ليس فقط الفني والثقافي بل الرياضي والاقتصادي والسياسي وكل ما يتبع المهن والحقول المختلفة.
في واقعه، هذا تحوّل جذري: عوض أن يقوم الرسّام بنقد الرسم والكاتب المسرحي بنقد المسرح، بات هناك من يقف في خارج المهنة لينتقد من يقف في داخلها. صحيح أن الشرط الأساسي والواضح هو أن يكون الناقد ملمّا، لكن لم يعد هناك الحاجة لأن يكون مسرحيا بدوره أو سينمائيا. عليه أن يدرس ويعرف، لكن ليس من الشرط أن يمارس الفن عمليا. هنا أخذت الفجوة بالاتساع. صاحب العمل الإبداعي قد يتساءل: من أين له الحق في أن يحكم على عملي وخبرتي؟ ويجيئه الجواب: من إلمامي ودراستي. الرد على الرد هو: لكنك دخيل على العمل. لا تعرف كيف تمارسه، فكيف تسمح لنفسك بأن تحكم عليه؟
…. وللحديث بقية.