أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

كربلاء.. نسخة غلاسغو

يحاول الرئيس الإيراني حسن روحاني، الحريص للغاية على التوصل إلى اتفاق مع مجموعة «5 + 1» حيال المشروع النووي الإيراني، حشد المزيد من الدعم لسياسته الانقسامية.
فقد حاول خلال الشهر الماضي استمالة القوميين بخطاب خلا تماما من ذكر الإسلام، ناهيك عن ذكر المرشد الأعلى السيد علي خامنئي. وقد تحدث عن إيران «بانية الحضارة لآلاف السنين»، قبل أن يأتي على ذكر الإسلام، و«إيران» القوة العظمى التي تعرف متى تقاتل ومتى تتفاوض.
والأسبوع الماضي، مع اقتراب شهر محرم، حاول روحاني استخدام قصة كربلاء، من أجل تبرير المفاوضات الجارية حاليا مع من كان يعتبرهم «الكفار».
زعم السيد روحاني أن الإمام الحسين قد تفاوض مع عمر بن سعد، مبعوث الخليفة الأموي يزيد، الذي كان يحاول إقناع الحسين بالالتزام بالهدنة المبرمة بواسطة أخيه الأكبر الإمام الحسن مع الخليفة معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية، ومن ثم العودة إلى المدينة. وقد رفض الحسين الهدنة وشارك في معركة كربلاء التي لقي فيها حتفه مع اثنين وسبعين من رفاقه المسلحين.
وفي محاولة من روحاني لتصوير الحسين الشهيد كرجل ذي عقلية منفتحة لغض الطرف والتسامح، ذكر كذلك عفوه عن الحر، وهو ضابط من معسكر الأعداء، بعد أن أعلن الأخير توبته وانضم إلى رفاق الإمام.
كان روحاني محقا بخصوص كلتا الحادثتين، غير أنه جانبه الصواب في استنتاجاته. فقد كانت هناك فعلا جلسة جمعت الإمام الحسين مع عمر بن سعد قبيل عاشوراء. لكنه يصعب على أحدنا تصور ذلك المشهد من زاوية المفاوضات. فوفقا لأبي مخنف الأسدي في كتابه «مقتل الحسين»، وهو أقدم الروايات الشاهدة على المأساة، أكد ابن سعد على طلب الخليفة يزيد عودة الإمام إلى المدينة وعدم التسبب في المزيد من المتاعب.
لكن الإمام الحسين رفض ذلك، مصرا على رفض الاعتراف بخلافة يزيد. وانتهت تلك الجلسة نهاية حادة. ومن الصعوبة بمكان اعتبارها جلسة من جلسات المفاوضات بأي معنى مقبول.
كان أسلوب الجانبين أقرب ما يكون إلى «الخطابة» والمعروف في اللغة العربية باسم «الرجز».
كذلك وقعت حادثة الحر على مسار مختلف تماما مما يدعيه روحاني. فالحر، الملقب على سبيل المصادفة باسم «الرياحي»، وهي تعني في اللغة العربية «دوارة الرياح»، غير اتجاهاته من دون الحصول على أي امتيازات.
أثارت قراءة روحاني المثيرة للجدل لقصة كربلاء عاصفة جدلية كبيرة في إيران، حيث وصف بعض النقاد نقل روحاني للقصة بأنه «نسخة غلاسكو من قصة كربلاء» بسبب ادعاء روحاني أنه حصل على درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية من جامعة في مدينة غلاسكو.
وقد حث آية الله أديب يزدي، في خطبة الجمعة، روحاني على إعادة تعلم إصدار «مدينة قم» من قصة كربلاء.
وذهب عالم دين آخر أبعد من ذلك، إذ وصف السيد حشمت الله قنبري نسخة روحاني من القصة بأنها «خطأ فادح»، لأن الحسين، وفق قنبري، لم يرغب في التوقيع على «مزيد من البروتوكولات» مع يزيد، غامزا من قناة روحاني، ملمحا بسخرية إلى أنه مستعد للتوقيع على شيء، أي شيء، مع مجموعة «5 + 1». وأردف قنبري «إن ما كان بين الإمام الحسين وابن سعد لم يكن مفاوضات.. بل كان إنذارا من الإمام».
وهناك رجل دين ثالث، وهو آية الله محمد قائم مقامي، أصر على الزعم أن الدرس الأول لحادثة كربلاء كان «رفض الهدنة مع الكفار»، وتابع «إن أولئك الذين يدعون إلى المصالحة مهما كان الثمن يعارضون رسالة عاشوراء».
حتى رجال الدين الذين يتلقون رواتبهم من الحكومة الإيرانية كان عسيرا عليهم تأييد «نسخة غلاسكو»؛ إذ قال آية الله محمد قاسم وفا، وهو المفوض الديني لدى الجيش الإيراني، إنه مع كون الحسين قد تناقش مع العدو فإن «الدرس الأخير لحادثة كربلاء كان النضال والاستشهاد».
وأشار آية الله مهدي طباطبائي، وهو من رجال الدين المؤيدين للرئيس روحاني، إلى أن الحسين عقد العزم على القتال حتى النهاية المريرة بعد أن أخفقت مفاوضاته مع ابن سعد.
تكمن المشكلة لدى «نسخة غلاسكو» في أنها تحاول إعادة كتابة الملحمة في صورة الرواية الفيكتورية.
كانت حادثة كربلاء دائما ما تحمل مسمى الملحمة في كل من اللغتين العربية والفارسية. وبالتالي يعتبر الحسين بطلا ملحميا، وعلى هذا النحو لا يمكن للحادثة أن تتطور، أو تتغير، أو تتحور، أو تتبدل، أو حتى تنضج في سياق الأحداث، ويأتي البطل الملحمي بكل ما لديه من إمكانيات تامة الإدراك. وليس من شيء، ولا حتى الشهادة أو النصر، من شأنه تبديل مصيره المحتوم، وهو يعتبر الترجمة الفعلية للمرسوم الإلهي لما ينبغي أن يكون عليه الفعل «كن».
وفي رواية ما، على الرغم من ذلك، يمكن للبطل أو يجب عليه، في واقع الأمر، أن يتغير، أو يشيخ، أو، بفضل إكسير الشباب، تصغر سنه، أو يكون أفضل أو أسوا حالا، أو أكثر ثراء أو فقرا، أو أن يقع في الحب، أو ينكسر قلبه، أو يكون قويا، أو بلا حيلة، حسب ما تقتضيه أحوال الرواية.
ولكن في حالة الحسين، ليس هناك ظرف واحد يمكن لأحدنا تصور أنه يمكن للإمام أن يتغير إزاءه بتغير الظروف المحيطة به.
وهناك مشكلة أخرى، وهي أنه إذا افترضنا أن موضع الإمام الحسين طرأ عليه قدر من التغير من خلال المفاوضات، وحتى مع تصور حالة النصر التام في صورة تنحي يزيد بن معاوية عن الخلافة وانتقالها إلى منافسه، فسوف نفرغ قصة كربلاء برمتها من فحواها ومن موضوعها الرئيس: الاستشهاد.
هذا ولم يكن الراحل آية الله الخميني من عظماء الفقهاء. ومع ذلك، وحتى مع إدراكه أن الأمر لا يرجع للأفراد من حيث تخير الاستشهاد، فإن بعضهم يقع عليه الاختيار، في حين أن الغالبية ليست كذلك.
والواقع أنه لم يكن الحسين في مواجهة خيار مفرد يتضمن صفقة ما مع يزيد بن معاوية، من حيث العودة إلى المدينة، وتوخي التقية حفاظا على حياته، أو حتى إعادة الانتقال إلى بحيرة الرزازة من أجل تأمين مصادر المياه. فإذا ما تتبع الحسين أحد تلك المسارات لكان بحق شخصية روائية بدلا من كونه بطلا ملحميا.
لقد ارتكب روحاني خطأ آخر من حيث التصنيف حين زعم أن «العقل» يبرر المفاوضات. غير أن الإيمان يتضمن الاعتقاد في أمور إذا ما أعملنا فيها العقل فإنه يعتبرها من قبيل المرفوضات، أو حتى من قبيل السخافات. وعلى العكس من ذلك، يبحث الإيمان في أعماق لا يتسنى للعقل سبر غورها.
وتأتي «نسخة غلاسكو» كمثال على خلط الدين بالسياسة، في ممارسة تضر بكلا الكيانين. فإذا كان روحاني يعتقد أن الرضوخ لإملاءات مجموعة «5 + 1» هو في صالح إيران، فعليه محاولة عرض فكرته تلك من زاويتها السياسية، وليس عن طريق تلمس سبل الأفكار والرمزيات الدينية تأييدا لطرحه، فدرجة الدكتوراه الاسكوتلندية التي يتمتع بها، على الرغم من كل شيء، لا تسعفه في إدراك ذلك.