فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

دعاة على أبواب جهنم

شكلت هذه السيولة من الصور التي توثق برك الدماء والأشلاء صدمة لمن أراد أو يريد أن يحلل المعنى الذي يحمله الإنسان تجاه عالمه، مشهدية الموت والقتل بأبشع صورها زادت من غموض جميع معاني الخير والشر، والظلمة والنور، كانت الحروب والمعارك ومطاحن المجازر تدار لغاية اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية قبلية، بينما الحرب التي تجري الآن هي بين الحياة والموت، بين ثقافة تريد الرحيل من هذا العالم عبر قتلك واجتثاثك واستئصالك، وثقافة تريد الحياة والأمن والرخاء.
للوهلة الأولى كانت هذه التنظيمات التي أحرقت كل مراحل الأصولية والإسلام السياسي مفاجئة لمن يشاهد أو يحلل أو يراقب، بيد أن المعنى الذي تحمله ليس بعيدا عن المنطوق والمبثوث في كثير من منصات إطلاق الخطابات الدينية والفتاوى المتداولة لدى جمع غفير من المسلمين، وهي تعاليم وفتاوى لم تجترح أو تنتقد أو تحارب وتواجه، بل غض عنها الطرف، وبخاصة فتاوى التكفير و«الجهاد» وثقافة «الكراهية» لأكثر من ثلاثة أرباع البشر على هذا الكوكب.
ظلت السعودية منذ تأسيسها أمام موجة من محاولات بث الأفكار المتطرفة المعادية للحياة، وقد خاض المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود معركة حامية في 30 مارس (آذار) 1929 ضد «إخوان من طاع الله»، واجههم بحزم في «روضة السبلة» وانتصر عليهم مُنهيا فصلا أول من فصول الإرهاب في تاريخ الدولة السعودية الوليدة، وتوالت تلك المحاولات، وسبق المفكرون السعوديون في ذلك الزمان بكتاباتهم عن الإرهاب.
في عام 1946 أصدرت «مكتبة مصر» مؤلفا مهما للمفكر السعودي الراحل عبد الله القصيمي تحت عنوان «هذه هي الأغلال»، ويذكر الألماني يورغن فازلا في أطروحته عن القصيمي أن الكتاب أهداه المؤلف حينها إلى الملك عبد العزيز، وجاء في هذا الكتاب: «فإننا نعتقد أن هذه الجماعات المنسوبة إلى الدين، الناطقة باسمه لو أنها استطاعت الوثوب على الحكم ووضعت السلاح في يدها لحكم البشر عهدٌ من الإرهاب يتضاءل إزاءه كل إرهاب يستنكره العالم اليوم، وهذا أمر يجب أن يعرفه أولو الرأي والمقدرة وأن يحسبوا له الحساب قبل فوات الأوان، ولن تجد أقسى قلبا ولا أفتك يدا من إنسان يثب على عنقك ومالك، يقتلك ويسلبك، معتقدا أنه يتقرب إلى الله بذلك، ويجاهد في سبيله، وينفذ أوامره وشرائعه!! والسوء لمن ناموا على فوهة البركان قائلين: لعله لا ينطلق».
كان هاجس عودة موجات العنف والعدوان على الحياة حاضرا في هذا الكتاب الذي يعود وهجه رغم مرور قرابة السبعين عاماً على إصداره، تحدث فيه عن أن هؤلاء سيعارضون النهضة المعاصرة الحديثة للسعودية والتي تشمل عمل المرأة، والتعليم العصري، والاطلاع على العلوم الطبية والفلكية، وتحديث المؤسسات الدينية والخدمية، وشتى أسس الحياة الضرورية التي ستقبل عليها المملكة. كان هذا الكتاب حدثا ومنعطفا في المباشرة لنقد المعاني المتطرفة التي يطرحها المناهضون للمملكة الحديثة والمناوئين لاستراتيجية الملك عبد العزيز التنموية، وقد كان «إخوان من طاع الله» أول من عارض التأسيس العصري للسعودية الفتية.
تعود حالات التطرف والعنف والإرهاب في السعودية باستمرار عبر طفرات إقليمية، أو موجات حدَثية، وذلك عبر استغلال العاطفة الدينية والسذاجة والضعف أمام من يتمسحون بألبسة وعباءات تعطي خطابهم وهجا غير مستحق، وقد كتب القصيمي قبل صرعات وانفجارات التطبيقات وقبل جنون وسائل التواصل الاجتماعي: «ولا يجب أن نعجب إذا وجدنا مخبولا يهذي ويمني بالمستحيلات، فقد نجح وأخذ برقاب الآلاف أو مئات الآلاف أو الملايين من هذه القطعان البشرية، يقودها حيث شاء، فإنه قد هاجم أضعف جانب فيهم - وهو جانب الرجاء والأمل - فقد انتصر عليهم دون عناء! وعلى هذا فمن البعيد الصعب الوقوف في سبيل هؤلاء المخادعين وفي سبيل استيلائهم على الجماعات بواسطة التلويح لها بآمالها، وعلى هذا يجب ألا يعد نجاح هؤلاء دليلا على أن لهم قيمة، بل يجب أن يعد دليلا على ضعف النفس الإنسانية المؤملة الراجية».
امتدت الرؤية السياسية السعودية المحاربة للإرهاب عبر مواجهة الملك خالد لمحاولة «الجماعة السلفية المحتسبة» بقيادة جهيمان في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 1979 التي حاولت احتلال الحرم المكي، وفي عهد الملك فهد، حين قاد حملة تأديب ضد رموز إخوانية «سرورية» أحدثت أعمال شغب في مدينة بريدة عام 1995، ومن ثم استمرت هذه الحملة على عهد الملك عبد الله الذي أسس لمنظومتين فكرية وأمنية لملاحقة ومتابعة ومحاكمة الإرهابيين، وهو عبر قواته يشارك التحالف الدولي حاليا في ملاحقة الإرهابيين في أوكارهم قبل ارتدادهم على أهلهم وإهلاكهم الحرث والنسل في بلادهم.
إن الأفكار العنيفة تجد طريقها في جيوب التعليم وفي المنبر النائي والخلايا الغامضة والتنظيمات الكامنة. هؤلاء المنظّرون قد يبدون للعلن بصور حمائم السلام، فلا تصدقوهم، فهم دعاة على أبواب جهنم كما هو الوصف النبوي للدعاة المخربين.