د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

نتائج الانتخابات التونسية: شد أذن «النهضة» وثقة في الأحزاب الجديدة

تبدو نتائج الانتخابات التشريعية التي أجريت في تونس يوم الأحد الماضي، مليئة بالرسائل ومحفزة لإبداء ملاحظات عدة. وقبل التعرض لبعض هذه الرسائل والملاحظات، من المهم، في تقديرنا، الانطلاق من نقطة نعتبرها في غاية الأهمية، وهي نجاح الجهاز الأمني في تأمين الظروف الآمنة للعملية الانتخابية رغم كل التهديدات التي قام بها الإرهابيون إلى حدود يومين (العملية الإرهابية بمنطقة وادي الليل يوم 23 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي) قبل الانتخابات ذاتها.
لذلك، فإن كسب الرهان الأمني وقطع الطريق أمام الإرهابيين ومنعهم من بث الرعب لدى التونسيين والتشويش على الانتخابات.. كل هذا يمثل نجاحا مهما للدولة وللنخبة الحاكمة حاليا، باعتبار أنها برهنت على تجاوز تونس، ولو نسبيا، مرحلة الهشاشة الأمنية.
لنأتِ الآن إلى السؤال الجوهري: كيف يمكن قراءة نتائج التصويت الانتخابي، وكيف يمكن تفسير فوز حركة «نداء تونس» بأغلبية المقاعد وتراجع نسبة التصويت بالنسبة إلى حركة «النهضة» السياسية الإسلامية، التي فازت في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في أكتوبر 2011 بالأغلبية النسبية؟
تتمثل أول ملاحظة حول الانتخابات التشريعية في أن نسبة التونسيين الذين قاموا بعملية التصويت ومارسوا حقهم وواجبهم الانتخابيين، قد بلغت 61 في المائة من مجموع المسجلين. وهي في الحقيقة نسبة متواضعة ولا تشي بوجود حماسة شعبية تجاه الفعل الانتخابي التشريعي.
الملاحظة الثانية، تتصل بنتائج الانتخابات؛ حيث إن الناخبين التونسيين عاقبوا الترويكا من خلال عدم التصويت لحزبي التكتل، والمؤتمر من أجل الجمهورية. كما أن الشريك الأساسي في الترويكا؛ أي حركة «النهضة»، وإن لم تتكبد خسارة كبرى، فإنها صمدت واكتفت بالتراجع النسبي؛ إذ لم تعد في صدارة الأحزاب، وافتكت منها حركة «النداء» مركز الصدارة والأغلبية النسبية لمقاعد البرلمان.
وفي الحقيقة وبالنسبة إلى حركة «النهضة» بالذات، فموضوعيا لا يمكن القول إنها سقطت انتخابيا أو تلقت ضربة قاضية؛ بل إن الأكثر دقة هو أن التونسيين قاموا بما يشبه عملية «شَدّ أذن» لحركة «النهضة» وإنزال عقاب رمزي ضدها. ومن ثم، فهي تراجعت دون أن تخسر كثيرا، ومن الصعب مقارنتها بالسقوط المدوي لشريكيها في الترويكا الحاكمة بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي.
ويبدو لنا أن هناك جزئية مفصلية ومهمة تتصل بالأحزاب ذات الخلفية الدينية، وهي أن طبيعة علاقة قاعدتها الشعبية بها تختلف عن الأحزاب السياسية الأخرى ذات التوجهات التحديثية والليبرالية.. ذلك أن العلاقة مع الأحزاب الدينية تحتكم إلى الآيديولوجيا وليس إلى مدى قدرة الحزب على إشباع توقعاته الاقتصادية وغير ذلك.
وما حصل مع حركة «النهضة» هو أنها فقدت الذين صوتوا لها في الانتخابات الفارطة دون أن يكونوا من قاعدتها الشعبية ومن مريديها.. ذلك أنه بعد حدث الثورة وعودة حركة النهضة، ومن باب الشعور بتضحيات هذه الحركة ومعاناة مناضليها في السجون والمنفى، فضلا على أنهم لم يخوضوا تجربة الحكم، فإن كثيرين من خارج القاعدة الشعبية للحركة قاموا بالتصويت لفائدتها، وذلك نكاية في النظام السابق وأتباعه.
وأمام اعتبار كثيرين من التونسيين أن حركة «النهضة» ارتكبت أخطاء جسيمة وأنها برهنت على خبرة سياسية متواضعة، وعدم قدرتها على تأمين الأمن والمحافظة على نمط الحياة الثقافي والاجتماعي التونسي، ناهيك باتهامها بالتساهل مع أصحاب الفكر الراديكالي والمتشدد، فإن الرصيد الشعبي الإضافي قد خسرته حركة النهضة في هذه الانتخابات، ولم يصوت لها إلا قاعدتها الشعبية المتضامنة معها والتي يفرض عليها الانضباط الآيديولوجي والحزبي ألا تمارس آلية العقاب إلا في مؤتمراتها الداخلية.
هذا فيما يخص التراجع النسبي لحركة «النهضة».
أما فوز حركة «نداء تونس» فهو نتيجة تستبطن وتظهر في الوقت نفسه رسائل قوية؛ أولاها أن الناخبين لا تعتقد غالبيتهم في الخطاب الثوري وفي القوى السياسية التي تركز في خطابها على مضمون الثورية. فـ«نداء تونس» خليط من دستوريين وتجمعيين وبعض عناصر من اليسار، يجمع بينهم رفض الإقصاء والدعوة إلى المصالحة الوطنية والتمسك بمبدأ هيبة الدولة. بل إن فوز «نداء تونس» هو في واقع الأمر فوز لرئيس الحركة السيد الباجي قائد السبسي الذي يرمز إلى المشروع التحديثي البورقيبي باعتبار أنه أحد رجالاته وتقلد وزارات عدة ويمتاز بخبرة سياسية وحنكة دبلوماسية. وهو ما يعني أن غالبية التونسيين الناخبين يفضلون أنموذج الدولة الوطنية الحديثة والمواصلة على النهج البورقيبي واتباع الإصلاح لا الثورة.
كما أن فوز «نداء تونس» في الانتخابات التشريعية، سيقوي من حظوظ الباجي قائد السبسي في الفوز بالانتخابات الرئاسية، خصوصا إذا تراجع عن تصريحاته قبيل الانتخابات التي تقول بأنه لن يتحالف مع حركة «النهضة». ويبدو لنا أن التراجع قد يكون ضرورة بالنسبة إلى الباجي قائد السبسي وهو الرجل البراغماتي والواقعي سياسيا.. ذلك أنه يمكن لحركة «النهضة» أن تلعب دور المعرقل أمام فوزه بمنصب الرئاسة في صورة عدم التحالف. ولا نعتقد أن المشهد السياسي كما بدأ يتشكل حاليا في ضوء نتائج الانتخابات التشريعية، سيترك المجال فسيحا لحركة «نداء تونس» كي تهيمن على البرلمان وعلى مؤسسة الرئاسة دون أن يتطلب منها ذلك تغييرا في التكتيك والحسابات والتحالفات.
الواضح أن الانتخابات الرئاسية ليست معزولة عن التشريعية، وأن هناك روابط غير مرئية وتأثيرية غير ملموسة.
والأكثر وضوحا هو أن النخبة الحاكمة الجديدة أمامها تحديّات مرهقة وكثيرة؛ على رأسها ملف الإرهاب، وملف الاقتصاد المتأزم.