عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

مصر بين حربين

تتعرض مصر لهجمة شرسة تستهدف جرها إلى مستنقع الفوضى وعدم الاستقرار الذي سقط أو أسقط فيه عدد من دول المنطقة. فالهجمات الإرهابية التي تصاعدت وتيرتها في الآونة الأخيرة هدفها إضعاف الدولة، واستنزافها، وإغراقها في دوامة من المشاكل الداخلية التي تمنع تعافيها. القوات المسلحة المصرية مستهدفة بشكل خاص لأنها الضامن لأمن مصر، واحتياطي القوة الأكبر في المنطقة.
منذ عقود نرى تدميرا ممنهجا للمنطقة ودولها، سواء بالإرهاب أو الحروب الداخلية، بحيث نسي كثير من شعوبها طعم الاستقرار، ونعمة الأمن. العراق دمر وأصبح يواجه احتمالات التقسيم والتفكك. سوريا باتت تشبه برلين بعد الحرب العالمية الثانية من حيث حجم الدمار، وتشريد أكثر من ثلث سكانها بسبب الحرب. ليبيا غارقة في معارك مدمرة بعد انتشار الميليشيات وتنامي طموحات الحركات المتطرفة المسلحة. اليمن يترنح أمام تمدد الحوثيين وسيطرتهم على مفاصل الدولة. لبنان يتعرض للهزة تلو الأخرى وتجتاحه المخاوف من تمدد دولة «داعش». اللائحة تطول، ولا أحد يشعر بالاطمئنان إزاء أحوال المنطقة والمسلسل الطويل من حروب لا تنتهي، وإرهاب لا ينقطع، فإذا أخمدت نيرانه في بلد يطل علينا من بلد آخر.
هناك قلق على مصر من أن تكون الهدف التالي في المسلسل الرامي لتقويض الدول واستنزاف قوى المنطقة. فالإرهاب عندما يضرب في مكان يكون هدفه الأول إضعاف الدولة، إن لم يكن إسقاطها، بضرب الاستقرار، واستنزافها اقتصاديا وأمنيا، وهز الثقة فيها وفي مؤسساتها. مصر قد تكون واجهت الإرهاب من قبل، ونجحت في القضاء عليه، لكن موجة الإرهاب الجديدة تأتي في ظل ظروف مختلفة داخليا، ومعقدة إقليميا.
العدد الكبير من الضحايا في صفوف القوات المسلحة وطبيعة مسرح العمليات في سيناء، يؤكدان أن الحرب مع الإرهاب ستكون شاقة ومختلفة وطويلة هذه المرة. فالإرهابيون يأملون تكرار تجربة «داعش»، وأن توفر لهم سيناء مساحة يعلنون فيها «دولة» وهمية تستقطب الدعم والمقاتلين من كل حدب وصوب، مثلما حدث في العراق وسوريا مع «دولة» داعش، أو في أفغانستان مع إمارة طالبان و«القاعدة». الدولة المصرية بدت واعية لهذا الأمر، ومن هنا جاء كلام الرئيس عبد الفتاح السيسي في خطابه للشعب المصري عقب العملية المزدوجة التي راح ضحيتها 31 من العسكريين، وتأكيده على أن المعركة ستكون طويلة.
الحرب الطويلة تحتاج بالضرورة إلى صبر، وإلى إجراءات لا تقتصر على الجانب الأمني وحده على أهميته، بل تضمن تماسك الصف الداخلي، ورص الصفوف، وكسب كل الفئات لضمان خنق الإرهاب، وتجفيف منابعه، ومعالجة أي أسباب توفر له بيئة حاضنة يستغلها أو ينمو فيها. من هذا المنظور يمكن قراءة تصريحات الرئيس السيسي الأخيرة التي أكد فيها أن محاربة الإرهاب يجب أن تتم من منظور شامل لا يقتصر فقط على الشق العسكري، وإنما يمتد ليشمل الأبعاد التنموية بشقيها الاقتصادي والاجتماعي. فسيناء فيها مشاكل لا تخفى على أحد، وأهلها يشكون من إهمال تراكم على مدى سنوات طويلة.
الدولة تستشعر هذا الأمر، وربما يكون من ضمن استراتيجيتها لحرب الإرهاب وخنقه في سيناء، العمل على إزالة أي غبن قد يشعر به أهلها، ومعالجة المشاكل التي يستغلها الإرهابيون لتحويل هذه الرقعة الشاسعة من أرض مصر إلى مرتع لهم. المشكلة أن هناك أطرافا تردد كلاما عن إفراغ سيناء وترحيل أهلها، ولو مؤقتا، للمساعدة في القضاء على الإرهابيين. مثل هذه الدعوات لا تخدم مساعي حرب الإرهاب، بل ستزيد الأمور سوءا لأنها ستشعل غضب الأهالي وسيستغلها حتما الإرهابيون وداعموهم. فمساعي حرب الإرهاب تتطلب كسب السكان لا استعداءهم، وفي قصة الفلوجة العراقية درس مهم عندما خسرتها الدولة العراقية وكسبها الإرهابيون، رغم الفارق بالطبع بين تركيبة المدينة العراقية وسيناء، والفارق بين أوضاع مصر والعراق.
هناك جانب آخر يتطلب وقفة متأنية ومشاورات أوسع حتى لا تحدث شروخ يستغلها المتربصون بمصر. فبعض الإجراءات التي اتخذتها الدولة في إطار التصدي لمخططات الإخوان، أو لمواجهة عمليات الإرهاب أصبحت مثار جدل، بل وانتقادات في أوساط قوى حزبية وشبابية كانت داعمة بقوة للثورة، ولا يمكن لأحد القول إنها ذات ميول إخوانية. على سبيل المثال هناك الجدل حول قانون التظاهر، وحول اعتقال ومحاكمة عدد من الناشطين الشباب، إضافة إلى الانتقادات لتدخل الأمن في الجامعات، ولقرار إنشاء «الشرطة المجتمعية»، ولبعض التعديلات المقترحة لتشديد قوانين الإرهاب التي يتخوف البعض من أن تؤدي إلى التضييق على الحريات.
الذين يحبون مصر ويتمنون لها الخير، وهم كثيرون، يريدون رؤيتها تتجاوز محنتها الراهنة وتستعيد عافيتها ومكانتها، لأن في تعافيها مصلحة وقوة للمنطقة بأسرها. والرهان المهم والتحدي الحقيقي هو أن تكسب مصر حرب الإرهاب من دون أن تخسر سيناء أو معركة الحريات والديمقراطية.