د. عبد الوهاب الروحاني
* رئيس مركز الوحدة للدراسات الاستراتيجية وزير ثقافة يمني سابق
TT

صنعاء.. بين غياب الدولة وهوس التقاسم!

أغرب ما يجري في اليمن، أن المؤسسة الرسمية في واد ومجريات الأحداث وواقع الحياة العامة ومعاناة الناس في واد آخر.. كل شيء في الوطن ينهار ويتعرض للتدمير، ومؤسسات الدولة تتفرج ببرود قاتل، وكأن الأمر لا يعنيها، لا من قريب ولا من بعيد، وهو - بالتأكيد - من أغرب ما يمكن أن يحدث في أي بلد من بلدان العالم.
ففي الوقت الذي تتقاتل فيه الميليشيات المسلحة للسيطرة على المعسكرات والمحافظات، والمدن حيث تتساقط الجثث في الشوارع والأحياء، وتُفخَّخُ النقاط الأمنية ويذبح المواطنون والجنود، وتنسف البيوت والمؤسسات في أبشع مظاهر العنف وتداعياته، لا تقرأ ولا تسمع في أخبار الإعلام الرسمي اليمني إلا ما يجلي الأنظار ويبهج النفوس، ويشنف الآذان، وكل شيء «تمام التمام» و«سمن على عسل» - كما نقول نحن اليمنيين.
وهنا يبرز دور الإعلام من خلال صياغة ومَنْتَجة الأخبار المفرحة والصور الوردية، التي تعبر عن «سعادة اليمن السعيد!»، وتعكس واقعا مزيفا لمجريات الأحداث في البلاد، عبر إشارات إخبارية رئاسية خفيفة وناعمة تعتبر ما يجري في البلاد مجرد «مماحكات وتجاذبات سياسية تؤثر سلبا على الأداء الحكومي والسكينة العامة»، ليثبت قادة البلاد ويؤكدوا لأبناء الشعب الذي ينزف دما أن الوطن بخير ولا ينقص المواطنين إلا سلامة وأمن وأمان هذه القيادات «التاريخية» التي تسهر ليل نهار على سعادة ورفاه الشعب اليمني وتعمل بكدها وعرقها على «تنفيذ مخرجات الحوار الوطني»!
فالرئاسة والحكومة منهمكتان في إصدار القرارات والتعيينات، وصرف ما تبقى من ميزانيات واعتمادات مالية للعام الحالي، والترتيب للمشاركة في فعاليات دولية من نوع مؤتمرات «حماية طبقة الأوزون» و«حماية اللهجات السواحلية الأفريقية من الاندثار» و«مخاطر إنتاج التوليد بالطاقة الذرية» مع أن اليمن يفتقد في الأصل لتوليد الطاقة الكهربائية بالطرق التقليدية.
أما أحزاب التقاسم والمحاصصة «الوطنية» فهي الأخرى تتزاحم على كعكة الحكومة الجديدة، وتعيش حالة استنفار وهوس لا مثيل له، بحثا عن حقيبة وزارية أو منصب «دسم» على روائح الجثث وركام مخلفات النار.
والغريب المضحك والمبكي في آن، أن هذه الأحزاب التي ليس لبعضها أعضاء أو حتى مناصرون تعيش هستيريا إصدار البيانات والتصريحات النارية التي تحذر من «الإقصاء والتهميش، وتندد بأساليب الاستحواذ، والإلغاء».. فهي تناضل وتنافح من أجل البقاء في «السلطة» أو الوصول إليها، لكنها بالمقابل ليست معنية بما يجري من سفك للدماء وخراب للبيوت وتدمير للوطن والدولة، وليست معنية حتى بالتحذير من مغبة ما يجري، فذلك أمر ليس في حسابها ولا يعنيها في شيء.
ولعل الحال هو نفسه مع اللجنة الأمنية العليا، التي تمثل أمل وطموح الشعب اليمني في إنقاذه وإخراجه من محنته، فأهم القرارات التي خرجت بها في ظل هذه المواجهات العبثية التي تجري في أكثر من خمس محافظات يمنية، وينزف الدم اليمني فيها بغزارة كما في مدن ومديريات البيضاء، وإب، وذمار، وحضرموت، هي «قرار استمرار منع الدراجات النارية من السير في العاصمة» حماية لأمن الدولة من الانبعاثات السامة لهذه الدراجات التي تملأ الشوارع ضجيجا، ومنعا لما يقلق مواكب الوزراء وكبار المسؤولين، حتى وإن كان الثمن قطع أرزاق الأسر المعدمة، ومنع من تبقى من البسطاء والمحرومين من أبناء الوطن من البحث عن دخل يومي يؤمن لهم ولأسرهم لقمة عيش كريمة وآمنة.
فلا شيء يقلق في هذا البلد السعيد، سواء أن هناك دولة منهارة، وانفلاتا أمنيا ضاربا أطنابه في كل مكان، ووحدة مهددة، ومدارس وجامعات مغلقة، ومواطنون يقتلون، وميليشيات مسلحة تتسابق على إحراق وتدمير ما تبقى من وطن.. مما يعني أن كل شيء تحت سيطرة الدولة والرعاة الدوليين والإقليميين، الذين يراقبون تنفيذ المبادرة الخليجية، ويرقبون التحركات المريبة للمعرقلين.. إذ إن ما يهم الدولة في صنعاء اليوم هو فقط «مخرجات الحوار الوطني» وما عداه فهو «مماحكات» لا يعني الرئاسة ولا يعني الحكومة، ولا الداخلية ولا الدفاع أمره.
تلك هي حال صنعاء، المدينة الجميلة التي تسكن في قلب التاريخ، وتقاوم نتوءات العصر.. إنها صنعاء «المليحة» في شعر البردوني، و«الحزن والفرح» في شعر المقالح، لا يزال في أحشائها وطن يبتسم، وإنسان يحلم بيمن يعيش زمنا لا مكان فيه للفوضى، ولا متسع فيه للعبث واللامبالاة.
* رئيس مركز الوحدة
للدراسات الاستراتيجية