كان سؤالا طرحه على مسامعي أحد المعارف أثناء زيارة لي في فترة السبعينات إلى دولة أورغواي لحضور اجتماع معهد الصحافة العالمي (IPI). من الطبيعي لأي مراسل أن يرحب بدعوة لتناول الشاي مع السكان المحليين. ولكن في هذه الحالة، رغم ذلك، كانت المشكلة في أن حركة توباماروس هي حركة متمردة انخرطت في أعمال إرهابية ضد حكومة أورغواي ولعدة سنوات.
غالبا ما يواجه الصحافيون الذين يعملون على تغطية الصراعات في مختلف أنحاء العالم مثل تلك المعضلات مع مزيج من القلق وأحلام البطولة. وفي حالتي تلك، لم يكن هناك مجال لأي طموحات بطولية إلا إذا كان السبب أنه في الوقت الذي تقابلت فيه فعليا مع قادة حركة توباماروس كانوا قد عقدوا العزم على إلقاء السلاح والدخول في مفاوضات من أجل تأمين قدر من السلطة في مدينة مونتيفيديو عاصمة البلاد. كان الرجال الـ5 الذين تناولت الشاي معهم في العقد الخامس أو السادس من أعمارهم ويبدون مسنين. ولم يكن أي منهما حازما بما يكفي ليدفع أوزة أمامه في الطريق فضلا عن ترويع جيش أميركي مجهز.
أينبغي على أحدنا إجراء مقابلة صحافية مع إرهابي من عدمه؟ ظل تساؤلا تدور حوله مناقشات الأخلاقيات الصحافية منذ القرن الـ19 حينما استخدم الفوضويون في أوروبا الغربية والشعبيون في الإمبراطورية القيصرية الإرهاب أداة سياسية.
مبدئيا، كان العائق أمام مثل تلك المقابلات هو رفض الإرهابيين تقبل فكرة حسن النية من جانب أي صحافي أو مراسل. وبالنسبة إلى نيشاييف، زعيم الإرهاب الروسي شبه الأسطوري، فإن جميع الصحافيين كانوا عملاء لدى جهاز أوكرانا، الشرطة السرية القيصرية. وفي المقابل، كان بيتر كروبوتكين، زميل نيشاييف المقرب وزعيم الفوضوية الروسية الأول، يفضل التحدث إلى الصحافيين ويتخذ من ذلك وسيلة في «نشر رسالته».
لم تقتصر الصعوبات الأولية على متاعب إقناع الإرهابيين بالحديث إلى الصحافيين. ولكن كانت هناك صعوبة أكبر من ذلك تكمن في كيفية صد ضغوط الشرطة السرية التي كانت ترغب في تحويل الصحافيين إلى جواسيس غير رسميين.
وعلى مر السنين، وكما هو الحال في غير واحد من مجالات الممارسات الصحافية، بدا أمر وكأنه نموذج فيما يخص التواصل مع الإرهابيين من خلال الأعمال التي قام بها صحافيون رواد. فقد أسند جورج سوريل، الموظف المدني الفرنسي الذي تحول إلى كاتب، أبرز أعماله حول العنف السياسي على سلسلة من المقابلات الشخصية التي أجراها مع الفوضويين والماركسيين الذين يستخدمون الإرهاب وسيلة لتحقيق مآربهم.
وجاء التساؤل التالي الكبير من حيث من الذي يمكن اعتباره إرهابيا؟ وقد خضع ذلك التساؤل للكثير من البحث والنقاش لما يربو على 150 عاما ولا يزال يثير الكثير من الجدالات المحتدمة في أروقة منظمة الأمم المتحدة. فلقد جعلت عبارة «إرهابي أحدنا هو مقاتل حر لدى آخرين» من الإجماع على تعريف بعينه أمرا عسيرا إن لم يكن مستحيلا.
يدفع غياب التعريف الموحد المقبول بالصحافيين إلى ادعاء أنهم إما أطباء أو متعهدو وفيات، أي أنهم يتعاملون مع الجميع بصرف النظر عن وضعيتهم في الحياة. وذلك القدر من الهراء دفع بعضنا إلى إجراء مقابلات مع شخصيات مثل رادوفان كارادزيتش، الإرهابي البوسني الصربي الذي انتهى به الحال إلى مجرم حرب.
وهو الهراء ذاته الذي دفع جون ميللر، أبرز مراسلي تلفزيون «إيه بي سي» الأميركي، لإجراء مقابلة مع أسامة بن لادن في أول أيامه كـ«أكثر الإرهابيين المطلوبين على مستوى العالم». كما أنه قام بدور الوسيط لعدد من الصحافيين السعوديين ومن بينهم السيد جمال خاشقجي من صحيفة «العرب نيوز».
يجب اعتبار بن لادن أكثر العقول الإرهابية المدبرة الساعية إلى الظهور واستجلاب الاهتمام لنفسه. وخلال السنوات الـ10 السابقة على اختفائه في عام 2002. تقابل بن لادن مع ما يقرب من 20 صحافيا، ومن بينهم الصحافي البريطاني روبرت فيسك وعبد الباري عطوان. وحتى عقب عزلته حاول بن لادن البقاء في بؤرة الاهتمام، تصدر الأنباء من خلال إرسال المواد الصوتية وأحيانا مقاطع الفيديو إلى قناة «الجزيرة» القطرية.
ولم يكن بن لادن وحده أبرز الشخصيات بين زعماء الإرهاب في العالم. فلقد كان لأبيمايل جوزمان، زعيم جماعة الدرب الساطع، وهي مجموعة إرهابية تعمل في دولة بيرو، قائمة طويلة من الاتصالات الصحافية التي كان يمكنه الاتصال بها هاتفيا في أي وقت من النهار أو الليل، مفترضا أنه سوف يدلي بتصريح «حصري» ولكن الاحتمال الأرجح هو من أجل كسر حدة الملل لديه. وتقول الأسطورة إنه وقع في غرام مراسلة صحافية لمدة 5 سنوات حتى إنه كتب فيها قصيدة شعر.
يمكن أن يؤدي التحدث مع الإرهابيين، بطبيعة الحال، إلى أن يخاطر المرء بحياته. وذلك تحديدا ما لاقاه صحافي جريدة «وول ستريت جورنال»، دانيال بيرل ذو الروح الجميلة بحق، والذي استدرج إلى فخ في باكستان مع وعد بمقابلة أحد كبار زعماء حركة طالبان الإرهابية، لينتهي به المطاف مذبوحا أمام الكاميرات كما تذبح الخراف.
لا ينتهي دائما المطاف بالصحافي الذي يدخل عرين الأسد بالقتل، ففي بعض الأحيان يجري احتجازه رهينة. وهذا ما لاقاه مراسل «أسوشييتد برس» تيري أندرسون الذي احتجزه «حزب الله» في بيروت منذ نحو 6 سنوات. كما استدرج «حزب الله» اللبناني صحافيين آخرين من خلال وعود بإجراء مقابلات، ثم يجري احتجازهم رهائن، ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى الآيرلندي بريان كينان والأميركي جيري ليفين. وجدير بالذكر أن «حزب الله» اللبناني الذي يخضع لسيطرة إيران يتصرف بناء على أوامر من أسياده المناصرين للخميني في طهران. ومع ذلك، احتجز الملالي الإيرانيون أيضا صحافيين من تلقاء أنفسهم، بمن فيهم جيرالد سيب بصحيفة «وول ستريت جورنال» الذي استدرج من خلال وعود بإجراء مقابلات حصرية. وحتى تلك اللحظة، لا يزال مراسل صحيفة «واشنطن بوست» جيسون رازيان محتجزا في طهران.
هناك طريقة واحدة ليحصن المراسل نفسه من خلال تبني اتجاه يحظى بتقدير الإرهابيين الذين يطمح الصحافي إلى إجراء تغطية صحافية بشأنهم. وهذا ما يتبعه المراسلون الغربيون من خلال تبني موقف مناوئ للولايات المتحدة الأميركية من أجل إرضاء «حزب الله» والملالي في طهران، وحركة طالبان، وتنظيم القاعدة.
بعض العقول المدبرة الإرهابية تتظاهر بعدم الاهتمام عندما تتمتع بالنفوذ، ولكنهم يبدأون البحث عمن يجري مقابلات معهم عندما يتم إقصاؤهم، كما هو الحال مع الملا محمد عمر، قائد طالبان؛ فعندما كان يحتل منصبا مهما في كابل، أجرى مقابلة واحدة فقط مع مراسل وكالة الأنباء الألمانية بيزهان ترابي. وبمجرد استبعاده في 2002، أصبح الملا «متاحا» لإجراء مقابلة مع إذاعة «صوت أميركا» وخدمة اللغة البشتونية التابعة لـ«بي بي سي»، ناهيك عن نصف دزينة من المنشورات الباكستانية.
وقد قام بعض الإرهابيين بقتل صحافيين باعتباره شيئا مفروغا منه لأنهم يعدون ذلك التصرف من الوسائل الفعالة لإظهار مدى نفوذهم وقوتهم. ويمكن الإشارة هنا إلى آخر ضحايا هذا الأسلوب وهما الصحافيان جيمس فولي وستيفن سوتلوف، اللذان ذبحا على يد تنظيم داعش.
كانت قضية إجراء حديث مع الإرهابيين مصدر إلهام لعدد من الكتب التي جرى تأليفها، ومن بينها كتاب «التحدث إلى الإرهابيين» للكاتبة آن سبيكهارد؛ و«إرهاب باسم الله» للكاتبة جيسيكا ستيرن؛ وكذلك كتاب «إجراء مقابلات مع إرهابيين» للكاتب جو نافارو.
ومع ذلك، حتى تلك اللحظة، لا تزال مسألة التحدث أو عدم التحدث مع الإرهابيين موضع تساؤل.
8:17 دقيقة
كوب من الشاي.. مع إرهابي
https://aawsat.com/home/article/209371/%D9%83%D9%88%D8%A8-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D9%8A-%D9%85%D8%B9-%D8%A5%D8%B1%D9%87%D8%A7%D8%A8%D9%8A
كوب من الشاي.. مع إرهابي
جدل لا يتوقف حول حدود العلاقة بين المتطرفين والصحافيين
- لندن: أمير طاهري
- لندن: أمير طاهري
كوب من الشاي.. مع إرهابي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة