سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

معركة طرابلس مفصل خطر

أكدت معارك طرابلس الشرسة، التي دارت في أكثر مناطق المدينة حساسية، بعد اندلاعها فجأة مساء الجمعة الماضية، أن تصريحات قائد الجيش جان قهوجي لصحيفة «لو فيغارو» الفرنسية، منذ نحو الأسبوع، حول وجود خلايا نائمة في طرابلس وعكار ونيتها الاستيلاء على المدينة، لم تكن من صنع الخيال، ولا من باب التهويل. الاحتجاج والاستنكار الذي لقيته هذه التصريحات من سياسيين في المدينة، أثبتا أن ثمة من يريد خداع المواطنين وتضليلهم وتخديرهم.
منذ يومين، دخلت طرابلس مرحلة مختلفة جذريا عن سابقاتها. لم تعد الاشتباكات تدور بين أهالي باب التبانة وجبل محسن، تلك الضاحية الهامشية التي عمل البعض على تأجيج نار الوقود الطائفية فيها كي تستمر ست سنوات دموية، انتهت بكبسة زر، منذ ستة أشهر. هذه المرة، الاشتباكات تجري بين الجيش اللبناني ومجموعة من المسلحين المتمردين المتطرفين الذين يعدون بالعشرات، داخل الأحياء الأكثر رمزية والأصعب عسكريا، والمفتوحة على المدينة كلها. النيران اشتعلت داخل الأسواق المملوكية العتيقة، التي اعتبرها البنك الدولي منذ سنوات قليلة، كنزا لبنانيا، بمقدوره إن استثمر، سياحيا وتجاريا، أن يسهم بنسبة كبيرة في سداد الدين العام الذي وصل إلى ستين مليارا. المعارك حامية الوطيس بالقذائف الصاروخية والرشاشات والقنابل، دارت في القلب الاقتصادي لطرابلس، الذي تعتاش منه آلاف العائلات، ومركز تسوق والتقاء كل مناطق الشمال اللبناني.
الأسواق المملوكية بحماماتها وخاناتها، أزقتها ومساجدها وزخرفها، تحت رحمة المسلحين، الذين تحصنوا فيها. المعركة كان مخططا لها. الأزقة والدهاليز الموجودة في الأسواق التي يسمع عنها الأهالي وبعضهم لا يعرفها، يعلم المسلحون جيدا خريطتها، ويستخدمونها في عمليات كر وفر واختباء وانتقال من منطقة إلى أخرى لمباغتة الجيش والإبقاء على عنصر المفاجأة، وفك الحصار عن أنفسهم كلما اقترب الجنود من إحكام قبضتهم عليهم.
ليست المرة الأولى التي يتحصن فيها متمردون في أسواق طرابلس مستغلين أزقتها، مروعين أهلها الآمنين وتجارها الصابرين. في الذهن ما عرف بـ«دولة المطلوبين» في سبعينات القرن الماضي. وبقاء المتمردين لأكثر من تسعة أشهر، دون أن تتمكن الدولة من الإجهاز عليهم.
لعل المسلحين يظنون أن الأسواق ستكون مأواهم ريثما يحققون غاياتهم، ربما أنهم لم ينتبهوا أن الحرب على الإرهاب كاسحة هذه الأيام، وأن ما كان مسموحا به قبل سنوات لم يعد مقبولا ولا متاحا. ما حصل في طرابلس مدبر، ولم يأت مجرد رد فعل عفوي على كشف ومداهمة خلية متطرفة، في منطقة الضنية الجبلية وقتل ثلاثة من عناصرها والقبض على رابع. طبيعة الأسلحة المستخدمة، والمنطقة التي اختيرت، والنداءات التي أطلقت سريعا على «الواتس آب» لأهل السنة للانضمام إلى المسلحين والتي لم تلق من الأهالي سوى الاستهجان والمزيد من الرعب مما يحضر لهم، تشي بأن الوضع يتخطى التمرد المحدود في الزمان والمكان.
عشرات أو مئات المسلحين يحلمون بإعلان إمارة إسلامية في طرابلس، هذه ليست المرة الأولى التي تمتحن فيها المدينة، لتفاجئ مختبريها، بأنها بقدر ما هي محافظة، بعيدة جدا عن تبني أحلامهم، أو أن تكون حضنا دافئا لهم. من «حركة التوحيد الإسلامي» في ثمانينات القرن الماضي، التي نصبت أمراءها على الأحياء وحكّمتهم بالعباد، إلى حركة «فتح الإسلام» عام 2007 التي بثت خلاياها في المدينة واستنهضت مناصريها عند اندلاع اشتباكات مخيم «نهر البارد»، الذين سرعان ما انكفأوا، وصولا إلى المحاولات المستجدة على إيقاع ما يحدث في سوريا والعراق، وغواية بعض أفراد الجيش بالانشقاق مع الاستعانة بكل أشكال التحريض المسموعة والمكتوبة والمقروءة، على وسائل التواصل الاجتماعي. ليس الخوف أن تصبح طرابلس متطرفة، فهذا ليس من طبيعتها، بل أن تجبر عنوة، بسبب حفنة من المسلحين على الخضوع لحرب استنزاف طويلة ومدمرة. فليست دهاليز الأسواق بقليلة، ولا المجموعة الموجودة فيها معزولة ومقطوعة من شجرة، بل لها امتدادات مبثوثة؛ لا في طرابلس فقط بل في لبنان كله.
قاتلت مجموعة الأسواق وحيدة، لكن لا شيء يؤكد أنها ستكون كذلك في مرات مقبلة، لا شيء يضمن أن لا مفاجآت يمكن أن تحدث في أي لحظة، وأن مجموعات أخرى قد تعطى الأمر بالتحرك والمساندة لإلهاء الجيش وإرباكه. المتمردون اللبنانيون معهم سوريون أيضا، بحسب المعلومات، منهم من قاتل في حمص وقلعة الحصن، وأماكن أخرى. لذلك، من الصعب أن يصدق المواطنون، حتى وإن انتهى هذا الاشتباك بأنه سيكون خاتمة المآسي.
ما تعيشه طرابلس اليوم يضعها على حافة الانفجار الكبير، إن لم تحسم معركة الأسواق بسرعة وحزم شديدين مع محاسبة من تعدوا على أرواح وأرزاق العباد. الجيش يفعل ما بوسعه. الطرابلسيون يعيشون رعبا حقيقيا. على سياسيي المدينة الذين راوغوا ناخبيهم، أن يصدقوا الناس لمرة واحدة وحيدة، أن يصارحوهم بما ينتظرهم، أن يخبروهم بمواقفهم العارية، ونياتهم المبيتة، أو أن يطمئنوهم، على الأقل، إلى أنهم أوقفوا ألاعيبهم، ذات الوجوه المتلونة، التي تقتل العاصمة الثانية وتروع نصف مليون بشري، باتت حياتهم على شفا هاوية سحيقة.