إقبال حماسي، هذه الأيام، على مسرحية «مجزرة» التي تعرض على خشبة «مسرح مونو» في بيروت، على الرغم من أن العنوان، للوهلة الأولى، لا يبدو جذابا. فالمجازر من حولنا كثيرة. لكننا هذه المرة أمام نوع آخر من تصفية الحسابات. نوع يبدو أنه يروق للمتفرج الذي يأتي باحثا عن أعمق ما فيه، عن جذور الوحشية الإنسانية ومنابعها الأصيلة. ثمة من جاء يكتشف نفسه، وهناك من يريد أن يفهم سر ما يدور حوله.
ثمة مسافة سحيقة في الغالب، بين القناع الاجتماعي الزائف للإنسان ودواخله الملتهبة بعنفها وعذاباتها، ومسرحية «مجزرة» التي تستمر عروضها حتى الثاني من الشهر المقبل، وهي من إخراج كارلوس شاهين، تقطع المسافة خلال ساعة ونصف الساعة بين هذين الوجهين المتناقضين والمتعايشين. نص الكاتبة الفرنسية المعروفة ياسمينا ريزا، ذات الأصول المختلطة (إيرانية، روسية، مجرية) الذي نقلته إلى اللهجة اللبنانية الممثلة القديرة رندا الأسمر، محافظة عليه كما هو، منكهة مفرداته بروحها الحيوية، يبقي على العرض متصاعدا حتى اللحظة الأخيرة.
يبدأ العرض ونحن أمام صالون أنيق وجلسة خاصة تضم أربعة أشخاص، يتداولون بهدوء ولباقة نزاعا حصل في المدرسة بين ولدي الثنائيين المجتمعين. ابن «آلان وفيرونيك» تضررت أسنانه الأمامية بسبب اعتداء ابن «أنيت وميشال» عليه ضربا بالعصا، واجتماع العائلتين هو لمناقشة كيفية حل هذه المشكلة بأفضل الأساليب الممكنة.
على كنبة كبيرة وجميلة في الواجهة، وإلى جانبيها كنبتان صغيرتان من جهة وأخرى من الجهة الثانية، يجلس الأربعة، وهم يتداولون بكلمات لطيفة، وحركات مدروسة، ولياقة عالية، على الرغم من أن الموضوع مثير للتوتر. تقديم «الكيك» والمشروبات من اللوازم الاجتماعية الاحتفائية بالضيوف أيضا، والطاولة الصغيرة الخلفية التي اصطفت عليها المشروبات والأكواب تؤكد ذلك. على يمين الخشبة ركن يمثل المطبخ وعلى الجانب الآخر ركن ثان، هو الحمام، فيما تركز الإضاءة على صالون الاستقبال فقط.
الخلفية السماوية الزرقاء الصافية للخشبة توحي بأجواء الانفتاح وسعة الأفق. الطائرات الصغيرة جدا التي تعبر هذا الفضاء الأزرق بين الحين والآخر، كون المنزل الذي تقام فيه الجلسة ليس بعيدا عن المطار، تحمل بطرافتها إحساسا بضرورة التحليق عاليا، وعدم الالتصاق بالأرضي المحسوس والملموس. لكن الحوار يبدأ تدريجيا بالتشنج، والخلافات تتصاعد، ليس فقط بين الثنائيين المتقابلين، ولكن بين الأزواج أنفسهم. ميشال بهاتفه الذي لا يهدأ ومكالماته المتواصلة التي تخص عمله، يزيد الأمر تعقيدا. فيرونيك الكاتبة المهتمة بحقوق الإنسان ذات الشخصية المتصلبة التي تنزع إلى المثالية في مجتمع لا يحتملها، وأنيت المستشارة بالإدارات التراثية التي تحاول أن تبقي غيظها مكتوما وصورتها الزوجية مقنعة من دون جدوى، وميشال الذي يبدو لطيفا ظريفا تصالحيا، لكنه، في النهاية، يخرج نقده اللاذع لضيفه ميشال ولزوجته دون مواربة. الممثلون فادي أبي سمرا، وبرناديت حديب، ورودريغ سليمان وكارول الحاج، وهم جميعهم ممن عرفوا بأدائهم العالي، لا يخيبون ظن المتفرج. بغياب المؤثرات الضوئية والصوتية والتعفف عن الموسيقى، مع الديكور الثابت، يصبح الممثل هو مركز الثقل: تعابير الوجه، حركة الحدقات في العيون، كل إيماءة يصبح لها وزنها في عمل يقوم على عنصرين أساسيين، وهما النص وأداء الممثلين.
في لحظة ما تصبح السيدتان أقرب إلى بعضهما البعض من زوجيهما اللذين يبدوان وكأنهما يغردان في عالم آخر. النزاع يصبح، مع تطور الحوار، بين كل فرد والآخر. الكلام البذيء يصير عاديا، ما دامت الدواخل تتفجر غيظا. نكتشف مع تقدم العرض، ومع التعري الذاتي المتواصل للشخصيات، أن كل كائن يعيش عالمه وتوتراته من دون أن يتمكن من مد جسور نحو الآخر، وأن عنف الولدين الذين يفترض أن الجلسة عقدت من أجلهما ليس سوى امتداد لعنف يعيشه الأهل، كل مع ذاته أو مع شريكه.
النص بعيد تماما عن المباشرة. ليست هناك أي محاولة للي عنقه أو تقريبه لما يجري حولنا من مجازر وسفك. الاسم «مجزرة» الذي يبدو، للوهلة الأولى، منفرّا لمن يعيشون يوميات حمراء دموية، لا يتطابق بالضرورة مع المشاهد. المجزرة هنا هي البدء، هي المنطلق، هي التفسير الأولي ربما لمجازر أكثر عنفا وشرا. كأنما العمل يريد أن يقول: لكل مصيبة أصلها، ولكل كارثة جذورها، والاقتتال الكبير يبدأ في داخل كل منا. الإنسان/ الفرد، هو بيت الداء. ياسمينا ريزا التي نقلت مسرحياتها من الفرنسية إلى خمس وثلاثين لغة، يبدو عملها منسجما ومتسقا مع يومياتنا في هذا الجزء من العالم، لكن على طريقته المستقرئة الباردة. الفنانة رندا الأسمر أبقت على أسماء الشخصيات، كما هي في النص الأصل، وهو ما فقد غرابته أو تغريبه، مع قدرة العمل على الشد والجذب وإرغام المشاهد على الاندماج والضحك، على الرغم من أن «المجزرة» بالمعنى النفسي قائمة. عرض يضع المتفرج أمام مشكلته الذاتية مع نفسه ومن حوله، دون أن يغرقه في الهم والسوداوية لا بل بالعكس، مع «مجزرة» ياسمينا ريزا برؤية كارلوس شاهين، ثمة حرص على الفكاهة والتندر، كلما ازدادت الصدامات شراسة وعنفا، وهو ما يفسر، ربما، الإقبال الكبير على رؤية العمل.
7:57 دقيقة
«مجزرة» المخرج كارلوس تبحث عن العنف في منابعه الأولى
https://aawsat.com/home/article/208611/%C2%AB%D9%85%D8%AC%D8%B2%D8%B1%D8%A9%C2%BB-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AE%D8%B1%D8%AC-%D9%83%D8%A7%D8%B1%D9%84%D9%88%D8%B3-%D8%AA%D8%A8%D8%AD%D8%AB-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%86%D9%81-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D9%86%D8%A7%D8%A8%D8%B9%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84%D9%89
«مجزرة» المخرج كارلوس تبحث عن العنف في منابعه الأولى
مسرحية الفرنسية ياسمينا ريزا باللبنانية.. ظريفة وحيوية
- بيروت: سوسن الأبطح
- بيروت: سوسن الأبطح
«مجزرة» المخرج كارلوس تبحث عن العنف في منابعه الأولى
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة