فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

«داعش» وإحراجات النقد الديني

ربما كان لنشوء تنظيم «داعش» دوره في ضرب مناخات إنتاج الخطابات الدينية بعضها ببعض. التكوين الفقهي، وتداول الأحكام، وتأميم الشعائر، وإقامة الحدود، وتأسيس أرضية للدولة الإسلامية «الحلم».. كل ذلك كان ثمرة لخطاب قديم ترعرع طوال العقود الثلاثة الماضية. «داعش» شجرة وليست بذرة. منذ الثورة الإيرانية عام 1979 وصعود الخطابين الثوريين لدى السنة والشيعة، وتشكّل خطاب الصحوة، وبدء المنازلات ضد الواقع القائم، والحديث عن هيمنة الغرب، وتكرير الخطابات الخشبية حول الإمبريالية، والهيمنة، والتقسيم، والتآمر ضد الإسلام والمسلمين.. منذ تلك اللحظة بدأت تتبلور مفاهيم الخلافة وعودة الأمة إلى مجدها وإعادة بناء الصرح.. منذ ذلك الظرف التاريخي تغذّت المجتمعات بتلك الخطابات بفعل الوجع الشعبي، واستُغلّت المجتمعات المغلوبة بجهلها والمفتقرة إلى خطابات المجد، بينما المجد لم يكن إلا «للعار» على حد تعبير المفكر السعودي عبد الله القصيمي بما يحمله عنوان كتابه «أيها العار إن المجد لك».
أحرج تنظيم «داعش» الأصوليين على مستوى الصعود بالخطاب والحلم إلى ذروته.. خرج بالمشروع الأصولي المشترك بين جميع التيارات الإسلامية من الكهف إلى الأرض على وجه الشمس، وتفرّع عن هذا الإحراج تخبط الرموز المتطرفة وتأخرها وعجزها عن إيجاد موقف من هذه الظاهرة. لم يصدر أي موقف من أي أصولي تجاه هذا التنظيم، بينما اكتفى بعض المحرّضين على المشروع نفسه لـ«داعش» في التسعينات وما تلاها، بإدانة إسالة الدماء بشكل عام، وهذا التصريح لا قيمة له، ذلك أن العموميات مطروحة حتى في المستندات التي تنطلق منها «داعش»، وهي مستندات فكرية وفقهية مشتركة بين الأصوليين بشتى أصنافهم من السروريين إلى «الإخوان» وحزب التحرير و«القاعدة».. كل هؤلاء لديهم عموميات عادية لا قيمة لها، ذلك أن التفاصيل هي موضع الأحكام، بينما العموميات هي شعارات وإمكانات وإحالات.
من بين المشروعات الفكرية والفلسفية التي تناولت العنف ومصادره وبوادره وإمكاناته في الأرشيف الإسلامي، الراحل محمد أركون، الذي بحث من خلال آلية «الإسلاميات التطبيقية» في المفاهيم التي تصوغ المفهوم العام للمعنى الأصولي والديني لدى ما سماه «المخيال الاجتماعي»، وهو على مدى 50 سنة قدم ورشة كبرى ونحت بمشارطه مفاهيم علمية لمعالجة هذه الأمراض وتشريحها، التي تنخر في الجسم الإسلامي، وذلك حين سأل أركون عن الفكر الإسلامي أين هو؟ وبدأ على الطريقة الكانطية بتأسيس «نقد الفكر الإسلامي» وبحث في جيل ابن مسكويه والتوحيدي، وراح يحرث بين العتمة والضوء داخل إرث متشعب. حذر منذ السبعينات الميلادية من نشوء ما سماها «آيديولوجيا الكفاح» التي يدخل بها إرث ما بعد الاستعمار، ومن بعدها تشكيلات الأصولية التي يؤرخ لها بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، وبلغت الذروة مع الثورة الإيرانية.
مارس أركون نقد الفكر الإسلامي من خلال المفاهيم المضيئة والشغّالة في الفلسفات الأوروبية، وعلى الأخص ما أثمرته البنيوية والتفكيكية، منطلقا من ممارسته المنضبطة معرفيا بوصفه أكاديميا يدرّس الطلاب ويبحث معهم في الأسئلة التي تشغله، وهو من خلال الفضاء العلماني الذي يفصله عن أن يكون منتصرا لمشروع ضد آخر، أو لطائفة ضد أخرى، مارس بمشارطه وتحليلاته أحد أدق الفحوصات المعرفية على الآيديولوجيات المتداولة في العالم الإسلامي على امتداده من إندونيسيا إلى المغرب.
إن التنظيم الذي تشكّل في هذه البلدان إنما هو امتداد لموضوع «آيديولوجيا الكفاح» التي تقسّم العالم إلى برّ وفاجر.. شرق وغرب.
لقد وصل أركون إلى حدود قصوى في مشروعه النقدي تجاوز بها بقية المفكرين العرب الخائفين، غير أن الحد الذي وصل إليه الراحل لم يكن كافيا لمتابعة ومراقبة تحرك الوتيرة الأصولية، هذا فضلا عن كون تلك الطروحات والمفاهيم والمعالجات لم تكن مرغوبة في الجامعات بالمشرق ولا لدى المؤسسات الثقافية الرسمية، مما جعل أركون حيا في المغرب وفرنسا، ومنذ أن توفي واسمه يطرح بشكل دوري في الصحف والملاحق الثقافية والمجلات المتخصصة.
نجاح «داعش» تعبير عن فشلين؛ فشل الخطابات المعالجة للتطرف داخل الإطار الديني، وفشل الصوت النقدي في الوصول إلى مناطق أكثر حساسية وراهنية. هناك خوف مشترك وعدوى صمت تجاه الأفكار الأصولية لنقدها بشكل جذري، لهذا تكون المعالجات مجرد مراوحة ومراوغة ومقاربة أكثر من كونها مواجهة جذرية شاملة مدعومة من المؤسسات الرسمية لتجاوز هذه الولادات المتكررة لنماذج الأصولية المتناسلة.
ولنا أن نسأل مع أركون: «ونحن نواجه هذا العنف العام على سطح الأرض، ما معنى هذه الفترة التي نعيشها؟».