سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

بيروت تخدع.. لا تصنع

قال وزير خارجية ليبيا الأسبق عبد الرحمن شلقم، للزميل غسان شربل، إن معمر القذافي كان يعتقد ساعة وصوله أن بيروت هي التي تصنع الصورة الإعلامية بسبب أثر صحافتها في زعامة عبد الناصر، ولذلك، كانت أول عاصمة يزورها. جعلني هذا الكلام أفهم حدث الوصول. فقد كان في استقبال القائد في مطار بيروت الرئيس شارل حلو، وهو رجل جليل فائق الذكاء ومن كبار مثقفي المشرق. رأى القذافي أن السيارة التي سوف تُقله مع مضيفه، مُغلقة، لا يستطيع الوقوف فيها لتحية الجماهير، فأصر أن يؤتى له بسيارة مكشوفة.
وأسقط في يد الدولة اللبنانية، على ما قالت العرب، وراحت تبحث عن سيارة مكشوفة تتماشى مع تحيات القائد. وبعد ساعة عثر على واحدة قديمة في مرأب القصر الجمهوري، فجيء بها وانتقل الموكب وسط الجماهير الهاتفة على الجانبين.
من يقرأ مذكرات السيد أحمد قذاف الدم عن أدواره وأدوار الزعيم القائد، يرَ أن القذافي كان باستمرار يسعى إلى تصحيح سياسات مصر وإلى ملء الفراغات في أفريقيا وإلى مجابهة سياسات الدول الأوروبية، بالإضافة إلى أنه كان يريد إملاء الرأي على الدول والقمم العربية.
ما بين رواية الدكتور شلقم، ذلك السياسي اللماح الذي روى أن القذافي كان يسميه «العبد»، وما بين إفاضات السيد قذاف الدم عن أدوار القائد، يستخلص القارئ أن القذافي كان يعتقد نفسه عبد الناصر آخر، إلى أن سئم من ذلك وانصرف إلى تاج أفريقيا المذهب.
لكن كانت هناك، على ما يبدو، عقبة، أو 3 عقبات بسيطة لم يعطها القائد الاعتبار الكافي؛ الأولى، أنه لكي يصنع الإعلام اللبناني عبد الناصر آخر لا بد أنه يصنعه من عبد الناصر آخر. الثانية، أن عبد الناصر في حاجة إلى مصر خلفه، أي نحو 30 مليون إنسان، والقاهرة، والأهرام، والنيل، وشوقي وأم كلثوم، التي كان يكرهها القذافي لأنه لا يطيق «المطولات». في الغناء لا في الخطابة.
العقبة الثالثة كانت موقع مصر بين الأمم، من أيام هيرودوت وكليوباترا والإسكندرية إلى أيام محمد علي. كل هذه مسائل ثانوية بسيطة وقفت عثرة في وجه الأخ القائد ولم يستطع «النهر العظيم» - مثلا – أن يحل محل النيل، ولا بنغازي محل الإسكندرية. ولا علاقة القذافي بالنميري محل «وادي النيل». والسبب في ذلك كله الجغرافيا والتاريخ وليس تقصيرا هنا أو هناك. بيروت لم تصنع أحدا. بيروت صنعها ضيوفها ولم تصنع أحدا منهم: نزار قباني، وياسر عرفات، وبدر شاكر السياب، وأكرم الحوراني، وميشال عفلق، وصلاح بيطار وقبلهم الحبيب بورقيبة، وطه حسين، ومعروف الرصافي. لا أحد يصنع أحدا في هذه الدنيا. خدعوه عندما قالوا له بيروت تصنع. بيروت تصنف القادمين والذاهبين.