منير عتيبة
روائي مصري ومؤسس مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية
TT

خالد محمد خالد

في رقبتي دين لأمتنا أن أذكرها بخالد محمد خالد (15 يونيو/ حزيران، 1920 – 29 فبراير/ شباط، 1996)، المفكر الكبير الذي شرفت بالتتلمذ على يديه خلال السنوات السبع الأخيرة من حياته، فرأيت كيف يفعل الرجال ما يقولون ويقولون ما يفعلون، وكيف يؤمن الكاتب بما يكتب ولا يكتب إلا ما يؤمن به، ويكون دائما في حالة تأهب واستعداد قصوى لدفع الثمن مهما يكن غاليا. كان يتحرى الدقة في كل ما يكتب، ويحرص على أن يكون لكل ما يكتبه معنى، حتى عناوين كتبه كانت تعبر عن جوهر الموضوع، فعندما يكتب «وجاء أبو بكر» أو «بين يدي عمر» فهو يضع الصفة الأهم في حياة الرجل مفتتحا. كان يعلمني كيف أحب لغتي وأحترمها، ليس فقط الجمل والكلمات، بل وعلامات الترقيم أيضا، وكان يردد «احترم ذكاء القارئ»، ويساعد المواهب بوقته وعلمه وماله، ويرى أن لكل شيء في حياة المرء زكاة، وزكاة الشهرة والعلاقات الواسعة أن تجعلها في خدمة الناس بما هو حق.
خالد محمد خالد هو الرجل الذي يتجاهله الجميع، لأنه - بحياته وكتاباته - يكشف عوراتهم جميعا، فلم يقايض الرأي بمنصب أو مال، ولم يبع قناعاته أبدا، ولم يجبن عن الصدح برأيه في أي وقت وتحت أي ظروف.
ذهب إلى حسن البنا، المرشد العام لـ«الإخوان المسلمين»، يدعوه لوقف نزيف العنف، فلم يستجب، فهاجم عنف «الإخوان» في مقالاته، لكنه رفض أن يهاجمهم أو حتى يعيد نشر ما كتبه عنهم بعد ثورة يوليو (تموز) 1952 بناء على طلب ضباط الثورة، لأن «الإخوان» وقتها كانوا في السجون لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، بينما كتب في الوقت الذي كانوا يستطيعون فيه أن يقتلوه كما قتلوا النقراشي باشا، رفض رغم ما يمكن أن يفعله به ضباط الثورة، ورفض رغم المكافأة المالية الكبيرة جدا التي لوحوا بها وكان لا يملك ثمن إيجار الشقة التي يسكنها.
وقف وجها لوجه مع جمال عبد الناصر في مناظرة هي الوحيدة في تاريخنا الحديث بين رئيس دولة ومفكر لأكثر من ساعتين وعلى شاشة التلفزيون على الهواء مباشرة، يتجادلان حول فكرة الديمقراطية وأهميتها للشعب، وقد توصل إلى تعريف لها «قدرة الشعب على تغيير حكامه بطريقة سلمية».
وقف بشدة ضد اجتياح صدام حسين للكويت حتى إنه تم تهديده بالاغتيال (وكنت أحيانا أحمل بنفسي المسدس الذي سلمه له وزير الداخلية للدفاع عنه.. لا هو ولا أنا كنا نجيد استخدام هذا المسدس!) لكنه رفض أن يعالج في لندن على حساب الكويت، ودخل مستشفى خاصا في مصر ودفع حسابه بنفسه، فلم يتكسب من الواقعة كما فعل آخرون كثيرون.
خالد محمد خالد الذي كتب: «من هنا نبدأ»، «دفاع عن الديمقراطية»، «في البدء كان الكلمة»، «رجال حول الرسول»، «الدولة في الإسلام»، «قصتي مع الحياة»، وغيرها من الكتب المهمة، استطاع أن يجمع في فكره خلاصة جوهر الإسلام والحداثة معا، والإيمان بحق الشعوب في تقرير مصيرها وحياتها من خلال فكرة الديمقراطية.
خالد محمد خالد هو حجة الله على الكُتَّاب البهلوانات الذين تتغير أفكارهم بتغير الحكومات، فإذا سألت أحدهم لماذا غيرت رأيك قال لك بوقاحة «أنا لم أتغير لكن الحكومة هي التي تغيرت»! هو حجة الله على من يرفعون اسم الإسلام شعارا يخفي تحته عنفا ودما وحجرا على إحدى رئتي المجتمع (المرأة) وسلما إلى السلطة والمال. خالد محمد خالد؛ الرجل والمفكر والفكر، هو ما نحتاجه الآن، نعيد دراسته، وننشر أفكاره، ليخرج جيل جديد يؤمن بسماحة دينه، ومقتضيات عصره، وحق أخيه الإنسان في الاختلاف معه، وأدعو كل هيئة يمكن أن تكون مهتمة بهذه الأفكار إلى تنظيم مؤتمر عربي كبير حول فكر خالد محمد خالد، يعقد مرة كل أربع سنوات في ذكرى وفاته التي لا تأتي إلا كل أربع سنوات مرة. فهل من مجيب؟

* روائي مصري ومؤسس مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية