في كثير من الأحيان تطغى علي مصريتي، وتخرجني في مناسبات كثيرة مثل الآن عن الرؤية العلمية أو التجريبية المتبعة، ولكن اليوم أشعر بحنين غير تقليدي نحو مصر ومصريتي، فإذا كانت الأولى أفترق عنها بحكم الغربة، فالثانية تظل تلازمني، فهي جزء من هويتي، ولكنني أسعى لوصفها اليوم على اعتبارها الدولة الوحيدة التي صنعها المولى - عز وجل - منذ الخليقة ومنحها أركانها المادية الثابتة إلى يومنا هذا، فكل دول العالم بنيت بالسياسة وتأثرت ديموغرافيتها بالأحداث، وتشكلت هويتها بالطموحات أو الانتصارات أو الهزائم بشكل أو بآخر، ولكن مصر في اعتقادي هي الاستثناء، فأساسها «الجيو - سياسي Geopolitical» لم يتغير حتى لو تغيرت حدودها بحكم التوسع أو الانكماش عبر الزمان، فمصر ككيان سياسي وإقليمي هي الدولة الوحيدة التي أدعي أن الساسة لم يشكلوها، بل وحدوها فقط، وبعد التوحد فإنها قد تتسع جغرافيا ولكن أساسها دائما ثابت في إطار جغرافي محدد منذ أن وحدها الملك مينا، وإذا ما حاولنا أن نفهم هذه الحقيقة من الناحية السياسية أو الجيو - سياسية أو التاريخية أو التحليلية فلن يصعب علينا ذلك، فكتاب «شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان» يظل في تقديري أفضل مرجع لهذا الغرض، كذلك كتابات عالم السياسة حامد ربيع، ولكنني اليوم أريد تناولها من مفهوم ميتافيزيقي يختلف تماما عن المنهج المتبع في هذا الباب، فأنا على قناعة تامة بأن في الكتب السماوية دلالات كاملة بأن تناول مصر فيها يؤكد أنها كيان سياسي يكاد يكون وحيدا.
يتضح من خلال إشارات القرآن الكريم في كثير من الأحيان أننا نغفل حقيقتين أساسيتين لصالح إما عدد المرات التي ذكرت فيها مصر أو أسبابها أو المباركة الإلهية الممنوحة إياها والتي دأب كثير من المدققين وغيرهم على ترديدها، ولكنني أسعى هنا للإشارة إلى حقيقة جوهرية وهي أن ذكر مصر في القرآن له دلالتان أساسيتان من الناحية السياسية - التحليلية - الجغرافية، فمصر هي الكيان «الجيو سياسي» الوحيد الموصوف في القرآن الكريم وبشكل قاطع ومانع وجامع، أما الحقيقة الثانية المنبثقة عن الأولى، فهي أن مصر كما وردت في القرآن الكريم تضمنت العناصر الأساسية التي ترتكن إليها نظرية الدولة في القانون الدولي وعلم العلاقات الدولية الحديث، كما لو أنها رسالة إلهية لحاضرنا تماما كما كانت لماضينا، وهو ما يجعلها شيئا فريدا متفردا يضيف إلى مقصد المولى عز وجل لها وبها.
فالحقيقة الأولى والمرتبطة بكون مصر الكيان الجغرافي - السياسي الوحيد في القرآن ثابتة وواضحة، ففي كتاب الله عز وجل نجد ذكر لكيانات مختلفة، مثل قوم «عاد» و «ثمود» و«لوط» إلخ، كما أننا نسمع عن كيانات أخرى مثل «الروم» أو قبائل محددة، ولكن مصر هي الكيان الوحيد المحدد في كتاب الله، فلقد ورد ذكر مصر في القرآن الكريم في 5 مناسبات وهي على النحو التالي:
- أولا: «اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم» (61 البقرة)
ثانيا: «وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه.... » (يوسف 21)
- ثالثا: «ولما دخلوا على يوسف أوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين» (يوسف 99)
- «رابعا: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة..» (يونس 87)
- خامسا: «ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون» (الزخرف 51(
وتعكس هذه الآيات وجود كيان سياسي جغرافي ممتد وواضح، فذكر مصر هنا ليس على اعتبارها مكان لقبيلة أو أرض مفتوحة الهوية والمكان، ولكنها كيان جغرافي سياسي واضح، فمصر معرفة في القرآن كما لو أنها كانت موضحة لكل العيان لا تحتاج إلى حدود لتعريفها، فهي مرتبطة بمكان يعرفه الخطاب الإلهي بوضوح ويدركه القارئ بشكل يكاد يكون من خلال الحدس، فالقرآن يتحدث عنها على اعتبارها تمثل كيانا متكاملا معروفا، ذات مكان معلوم.
أما الحقيقة الثانية، فهي المرتبطة بتفسير الدولة وأركانها في القانون الدولي وعلم العلاقات الدولية، فالدولة وفقا للقانون الدولي ترتكز على 4 محاور رئيسة أهمها في هذا الإطار «الشعب» أو مجموعات من البشر مجتمعين على فترات زمنية ممتدة، والثاني هو «الإقليم» أي المكان أو الحدود التي يعيش فيه هذا الشعب بصفة دائمة، والثالث هو «السلطة» أي وجود سلطة سياسية منظمة قادرة على إدارة البلاد على فترات زمنية، ويضاف لهذه العوامل الثلاثة وجود اعتراف دولي بها، وإذا ما نظرنا لتناول القرآن لمصر فسنجد المولى عز وجل قد وضع أركانها بشكل يكاد يكون مؤسسي، فالإقليم معرف كما أشرنا، وهو أرض الكيان المصري، فالجميع يعرف أين تقع مصر ونيلها والذي وصف في الآية الأخيرة، والمكان هنا ثابت وواضح المعالم، وهذا هو الإقليم وفقا لأركان الدولة وإن كانت وسيلة تعريفه تختلف بطبيعة الحال عن الآن، أما العنصر الثاني والخاص بالشعب المصري المقيم فيها، فهو أيضا معرف في القرآن، فالآية الخامسة تشير بوضوح إلى قوم مصر الذي نادى فيهم فرعون، أي الشعب المصري، والذي ربطته الآيات الأخرى بالمكان الجغرافي، أما العنصر الثالث والأخير في المعادلة، وهو السلطة السياسية المنظمة القادرة على ممارسة السيادة فهي واضحة ومعرفة أيضا، فالآية الخامسة تشير إلى فرعون ويعد ممثلا لهذه السلطة السيادية، خصوصا قوله تعالى «أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي»، فالسلطان واضح لفرعون على الأرض، كما أن هناك من الآيات الكثيرة التي تعكس هذه الحقيقة خاصة تلك الآيات المرتبطة بخروج بني إسرائيل من مصر كقوله تعالى لسيدنا موسى «اذهب إلى فرعون إنه طغى» أو «وإذ قال فرعون..» وغيرها من عشرات الآيات التي تذكرنا دائما بالسلطة السياسية في مصر، وهنا تبرز السيادة بشكلها الواضح ممثلة في شخصية فرعون والتي ليست مقصورة على شخصية موحدة وفريدة، ولكنها مستخدمة في القرآن بشكل يقرب للتعريف السياسي منها إلى الشخصية الفردية لفرعون محدد، وكل هذه الإشارات القرآنية بالتأكيد لها دلالاتها التي تعكس أن مصر دولة منذ القدم، وهي أول وآخر كيان سياسي معترف به القرآن الكريم.
وفي هذا الإطار فلا يختلف العهد القديم أو الجديد كثيرا عن هذا النهج القرآني، بل إنه قد يعيد تأكيد هذه المعاني من خلال غزارة الاستخدام المستقل لمصر من نفس المنطلق، فهناك من الإحصائيات التي تشير إلى أن مصر ورد ذكرها في الكتاب المقدس قرابة 559 مرة، كما أن هناك إشارات واضحة للشعب المصري فيها يحصيها البعض بقرابة 120 مرة، بل يرى آخرون أن مصر ذكرت بشكل واضح وغير واضح أكثر من 750 مرة، كما أن بها إشارات ومعالم جغرافية واضحة للعيان ترمي إلى نفس هذه الحقائق.
اعتقادي الراسخ أن الدولة لديها روحها كما أكد الفيلسوف الألماني العظيم هيغل، وهذه الروح المصرية أدعي بموضوعية أنها دائما ما تطغى وتطفو على ما حولها، فيراها البعض «أرض الكنانة»، وتتكامل في تقديري عناصر هذه الروح وتتوج بالإشارات الإلهية الواردة في القرآن الكريم والكتب الإلهية، فهذه العناصر تمثل البعد الميتافيزيقي الذي لا يمكن تغافله، فالدول لا تحيا بالمضامين المادية فقط، وبهذا البعد الروحي العظيم يزداد يقيني بأن مصر محمية إلهية مستعصية على الدول والساسة والمؤامرات.
7:49 دقيقة
من التاريخ: المحروسة
https://aawsat.com/home/article/206031/%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D8%B1%D9%88%D8%B3%D8%A9
من التاريخ: المحروسة
من التاريخ: المحروسة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة