أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

دروس من قضية عبد الله القاضي

تألمنا كثيرا لخبر مقتل الطالب السعودي عبد الله القاضي، المبتعث إلى الولايات المتحدة لدراسة الهندسة الكهربائية. ومهما قيل في رثاء هذا الشاب المهذب الطموح، وفي عزاء أهله الكرام، فلن يقلل من هذا الشعور الثقيل على النفس بالفقد والحزن.
كنا جميعا نترقب الأخبار منذ اختفائه - رحمه الله - في منتصف سبتمبر (أيلول) الماضي، آملين أن نسمع أخبارا سارة، إلا أننا صدمنا وأسلمنا أخيرا بالقضاء والقدر. هذه المأساة الكبيرة أعطت دروسا قاسية وفرضت علينا المراجعة. وأنا أتحدث بصيغة الجمع لأن الأطراف المعنية متعددة؛ الطلبة، الأسرة، وزارة التعليم العالي وملحقياتها الثقافية، السفارات السعودية، وأخيرا المجتمع، الذي يتفاعل من خلال مواقع التواصل الاجتماعي بالرأي والنقد. وحديثي ليس عن حالة عبد الله القاضي تحديدا، لكننا نقيس عليها لأنها منحتنا فرصة للمراجعة.
من حيث المبدأ، وجود 150 ألف طالب وطالبة حول العالم من أجل التعليم هو أكثر من حلم تحقق، وبلا شك فبرنامج خادم الحرمين للابتعاث هو المشروع التنموي الأكبر في تاريخ السعودية. مشروع بهذه الضخامة نتوقع فيه حصول أخطاء أو حوادث، وكما قال لي أحد مسؤولي التعليم العالي، «نحن نتابع طالبا في طوكيو حتى نهاية يومه الدراسي الذي يبدأه زميله في لندن». أي أنه البرنامج الذي لا تغيب عنه الشمس.
أميركا 50 ولاية، كل واحدة منها بمثابة دولة، بقوانينها ونظامها، تختلف فيما بينها في كل شيء تقريبا، من المناخ وحتى العقوبات الجنائية. مثل هذا التنوع يوجب أن يكون الطالب على وعي بما يخص ولايته على الأقل، من حيث الأنظمة، والمواقع المشبوهة سواء الافتراضية أو الواقعية، الملتقيات الاجتماعية والرياضية... إلخ، معلومات كثيرة ممكن أن ترسل إلى بريده الإلكتروني بكل سهولة.
فمن المسؤول عن توجيه وإرشاد كل هؤلاء المبتعثين؟ هما جهتان تتبعان الملحقية الثقافية؛ الأولى الأندية الطلابية، والثانية المشرف الطلابي. الأندية الطلابية لها دور كبير منذ لحظة وصول المبتعث، لأن الحاجة إليها ملحة للمساعدة في تنظيم الأمور المعيشية كالسكن والسيارة وغيرها. مع الأخذ باعتبار مهم، وهو أن الطالب المبتعث قد يكون قادما من مدينة صغيرة أو حتى هجرة من الهجر السعودية، وربما لم يسبق له مغادرة المملكة. أي أننا نفترض أن هذا الطالب جاهل تماما بالأنظمة الأميركية.
أعلم أن وزارة التعليم العالي تقوم بعمل دورة إرشادية للطلبة قبل مغادرتهم المملكة، تحذرهم من مخاطر الكحول والمخدرات وتوضح لهم أهمية الالتزام بنظام الدولة المضيفة وأنهم سفراء لبلدهم، وتقدم النصائح الأكاديمية وتوجههم لكيفية التواصل مع الملحقية الثقافية، وغيرها من المعلومات. وهذه خطوة مهمة ألزمت فيها الوزارة كل المبتعثين وجعلتها شرطا لقبولهم، وحسنا فعلت.
لكن الحقيقة أنه في لحظة وصول الطالب للمطار لن يكون قلقا من الكحول والمخدرات، ولا حتى وضعه الأكاديمي. في هذه المرحلة هو يريد سكنا وسيارة بأسعار مناسبة، ورخصة قيادة، ومدارس لأبنائه إن كان بصحبة أسرة. وهذه من أصعب المراحل على الإطلاق لأنها تترك في نفس الطالب المغترب أثرا كبيرا سواء بالسلب أو الإيجاب. هنا يأتي دور النادي الطلابي، الذي يتلقف الطالب القادم ويوجهه إلى أفضل السبل إلى الاستقرار.
في موقف مزعج، وجد أحد الطلاب نفسه مؤخرا أمام قاض في محكمة بعد التحفظ على سيارته، والسبب أنه كان يقود سيارته برخصة قيادة سعودية، حينما أبلغته القاضية بأن عليه أن يستصدر الرخصة الأميركية قال إنه استأجر سيارته برخصته الوطنية فاستنتج أنها وثيقة معترف بها في نظام المرور، بالنهاية تم تغريمه، والمواقف المشابهة كثيرة. تعثر الطالب في بداياته بمثل هذه المواقف سيفقده التركيز على تحصيله الدراسي لأنه سيكون دائم القلق على أموره العالقة. والحقيقة أن الأندية الطلابية، على الأقل التي تعاملت معها، كانت على قدر المسؤولية، ولكن لا مانع من المراجعة والتأكيد على أهمية دورها في تقديم الدعم والتوجيه.
أما المشرف الطلابي، فهو ليس مشرفا أكاديميا فحسب بل يعد موجها ومرشدا، لأنه أكثر المسؤولين ارتباطا وتواصلا مع الطالب، من خلاله يمكن للملحقية توصيل نشرات توعوية عما يستجد من حوادث أمنية في الولاية التي يدرس فيها وفي غيرها، والتحذير من المواقع والشخصيات المشبوهة، والمساهمة مع النادي الطلابي في حل مشكلات الطلبة اليومية.
لديّ قناعة راسخة من واقع خبرة، بأنك إن أردت توجيه الطالب فلا تنتظره حتى يأتي إليك، في مكتبك أو موقعك الإلكتروني أو حسابك في «تويتر»، بل اذهب أنت إليه، اتبعه إلى بريده الإلكتروني وتليفونه المحمول.
هذا الطالب عليه مسؤولية كذلك، لأنه ما وصل إلى أقصى البقاع لطلب العلم إلا وهو يظن في نفسه المسؤولية. للأسف هناك عادات اعتاد الطلبة السعوديون اتباعها رغم أنها خطأ في أصلها. فالتعامل مع سماسرة السيارات والأثاث لأنهم الأقل سعرا تعامل غير آمن حتى وإن كان له سوابق ناجحة، وحمل مبالغ نقدية كبيرة فيه مخاطرة غير محمودة العواقب.
درس صغير حصل لي حينما كنت في دورة تدريبية في ضواحي واشنطن، في طريق عودتي لسكني استقللت القطار كالعادة، جلست أمامي سيدة أميركية سألتني عن جنسيتي وسبب وجودي فقلت لها إني أدرس في ذاك المعهد، نظرت إليّ بتهكم وقالت: طالبة وتحملين مثل هذه الحقيبة؟ وكانت تعني أن حقيبتي التي تحمل علامة تجارية لا تتناسب مع وضع الدارسين كونهم في مكان لتلقي التعليم وليس لعرض الأزياء، شعرت بحرج، أخجلتني، لكنها خدمتني بهذه الملاحظة التي بت أذكرها لمن حولي، فمن غير الملائم أن يقتني طالب العلم قطعا ثمينة في دول يذهب وزراؤها للعمل على دراجة هوائية.
أما رسالتي للمجتمع الذي شهد هذه الحادثة المأساوية لعبد الله القاضي، فعليه أن يعي الدرس جيدا، كما أن عليه مسؤولية التفاعل بشكل موضوعي وليس بشكل عاطفي. الحصول على المعلومات في ذلك الوقت الحرج الذي يتطلع فيه الأهل والأصحاب لأي خبر، يكون صعبا نظرا لحق الجهات الأمنية في الاحتفاظ بمعلوماتها لسلامة التحقيق، إضافة إلى شح المعلومات التي يفترض الحصول عليها من الجهات الرسمية، أي الشرطة أو القنصلية السعودية التي تابعت باهتمام كبير مجريات القضية حتى نهايتها، ما افتقدناه هو وجود متحدث إعلامي يظهر يوميا ببيان صحافي حتى لو لم يكن بين يديه مستجدات، لأن التواصل مع الناس هو جوهر الاطمئنان.
في الولايات المتحدة تحصل حوادث اختفاء كل يوم، منهم من يعود لأهله سالما وبعضهم يتعرض للأذى، وكثير من الحالات يظل البحث عنها جاريا لأسابيع وشهور مثل فتاتي فرجينيا الطالبة «أليكس مورفي» التي اختفت في أغسطس (آب) 2013 وكشف مقتلها بعدها بثمانية أشهر، و«هَنا غراهام» المخطوفة منذ شهر ولم يستجد بشأنها شيء حتى الآن، مع قضايا اختفاء كثيرة لم تحل منذ سنوات.
الولايات المتحدة دولة قانون، لكن هذا لا يعني أنها تخلو من الجريمة، والحياة فيها ممتعة واستثنائية ولكن التهيئة لهذه الحياة تتطلب الإلمام والوعي.
أخيرا، أقدم أحر التعازي لأسرة الفقيد، رحمة الله عليه، وبالأخص والديه الفاضلين، ألهمهما الله الصبر.