طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

أصوات تعيش في جلباب آبائها!

خلال الأسبوع الماضي كنت أعيش الماضي والحاضر الغنائي، حضرت حفلتين للموسيقى العربية تقدمان الأغاني القديمة بأصوات مطربين جدد. شاهدت فرقتين، واحدة يقودها سليم سحاب، والثانية صلاح غباشي، ليس الآن مجال مقارنة بينهما، سحاب يملك «كاريزما» على المسرح، وهذا الأمر ليس له علاقة بقدرته أو تفوقه، ولكنها حالة من الحضور يحظى بها البعض، ولا يمكن أن تحيلها إلى أسباب موضوعية تضع يديك عليها.
حكايتنا هذه المرة عن مطربي هذه الفرق التراثية. هؤلاء المخلصون عادة لما يقدمونه من أغنيات قديمة لها مكانة في وجداننا، هم يحاولون التسلل إلى مشاعرنا من خلالها. هل نحن نحتفظ فقط بالأغنية كصوت وننسى ملامح المطرب الأصلي، أم أن الماضي له حضوره الطاغي؟ عدد من المطربين نكتشف أن الأغنية كانت جزءا من ملامحهم، ليست فقط الصوتية، ولكن أيضا الوجدانية. لو غنى مطرب جديد «قارئة الفنجان» تستدعي على الفور زمن عبد الحليم. ولو استمعت إلى «إن راح منك يا عين» ستجد أمامك شادية. ولو غنوا «طير الوروار» ستحضر فيروز.
الفرق الغنائية عادة تستعين بمطربين تتلبسهم هذه الأصوات لتصبح جزءا من تكوينهم النفسي وليس فقط الصوتي، أظنها تنعكس على حياتهم الشخصية. ويحدث مع الزمن قدر من التوحد. تصبح هذه فايزة أحمد، وتلك نجاة، وهذا عبد المطلب، والرابع وديع الصافي، وهكذا.
لا أتحدث عن مطرب يغني مرة أو حتى مرات لمطرب كبير، مثلما تفعل مثلا أنغام، فلها أغانيها لكل من أم كلثوم وعبد الوهاب ونجاة، ولا ننسى أن فيروز غنت لسيد درويش «الحلوة دي»، ولمحمد عبد الوهاب «خايف أقول اللي في قلبي»، ووديع الصافي غنى لأم كلثوم «الأطلال»، ونانسي «يا واد يا تقيل»، كلها تقع في إطار الاستثناء، ولكن أتحدث عن المطرب الذي يعيش فقط في جلباب مطرب آخر ولا يمكنه الخروج من تلك الشرنقة الأبدية.
الناس تتوق دائما إلى أن يأتي المطرب بمشاعره وأفكاره وأحاسيسه ليعيش نبض الزمن الحاضر، مهما أثنوا على الماضي الجميل، فهم يريدون من يغني للحظة التي يعيشونها بحلوها ومرها.
أضرب مثلا بالمطربة آمال ماهر، التي بدأت المشوار قبل 15 عاما، ولا يعرف الكثيرون أن الرئيس الأسبق حسني مبارك كان وراء تبني الإذاعة المصرية لها، وبدأت الدولة في احتضانها وتعليمها أصول الغناء. كان مكتشفها الموسيقار الراحل عمار الشريعي حريصا على أن تحتفظ بطابعها الكلثومي. وحظيت آمال بثناء الجميع على إمكانياتها الصوتية، ولكن لم تستطع أن تصبح مطربة لها مكانتها وجمهورها إلا قبل خمس سنوات عندما تحررت من قيد أم كلثوم وغنت لزمنها.
ويبقى في المعادلة المطرب صاحب الأغنية الأصلية لأنه في العادة لا يرحب بمن يقدم أغنيته، فلم يرتَح محمد قنديل إلى مدحت صالح وهو يردد «تلات سلامات»، ولم تكن سعاد محمد سعيدة بغناء خالد عجاج لأغنيتها «وحشتني»، وشريفة فاضل انتقدت أداء محمد منير لأغنيتها الشعبية «حارة السقايين»، وربما الوحيد الذي خرج عن الخط هو الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي قال معقبا: لو المطرب غنى أحسن مني فربما أدى ذلك إلى أن يتذكر الجمهور الأغنية بصوتي، بينما لو أداها أقل مني فسوف يمنحني الجمهور شهادة بالتفوق، فأنا الفائز في الحالتين!!
يبقى هؤلاء الذين تحولوا إلى صدى أو في أحسن الأحوال تنويعات لأصوات أحببناها لأنهم لا يزالون يعيشون في نفس الجلباب. إنه يبدو لي نوعا قاسيا من الحب، والذي وصفه يوما الشاعر اللبناني الكبير بشارة الخوري قائلا: «ومِن الحُب ما قَتَل»!