سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

سلاح مرعب

أيام كان السوفيات في مصر كنا نلاحظ - بامتعاض - أن تصوير أي شيء كان ممنوعاً في القاهرة أو الإسكندرية. لم أحمل في حياتي آلة تصوير لأنني لا أعرف كيف أستعملها. لكنني رأيت الشرطة توقف كل من التقط صورة في الشارع حتى لأسراب الحمام أو عربات الكارو التي تجرها الحمير.
رأيت في كل ذلك مبالغة لا معنى ولا ضرورة لها. فهل أسراب الحمام أم عربة الكارو هدف استراتيجي، أم هي عقلية المخابرات السوفياتية وهواجسها المرضية؟ لا. هناك في الأمر ما هو أكثر من ذلك. الآن أقرأ في «يوميات روسية» للأميركي جون شتاينبك (نوبل 1962). يروي أنه تقدم عام 1947 بطلب تأشيرة إلى روسيا لوضع كتاب عن الحياة فيها، على أن يرافقه المصور روبرت كابا. وبعد فترة أبلغه القنصل السوفياتي في نيويورك أن في إمكانه السفر حين يشاء وأن يمضي من الوقت ما شاء، أما رفيقه المصور فلا. عندما سأل شتاينبك عن السبب أجاب القنصل: «عندنا أعداد غفيرة من المصورين وفي إمكانك الاستعانة بهم».
أجاب الروائي الشهير: «لكن أحداً من مصوريكم ليس روبرت كابا الذي هو أكثر شهرة مني في أميركا». وفكرة الكتاب نص وصورة متساويان. بعد تردد أعطيت التأشيرة للمصور أيضا. وبعد أيام في روسيا اكتشف شتاينبك لماذا هي آلة التصوير مرعبة إلى هذا الحد.
«لأنها من أخطر الأسلحة هذه الأيام. كل دمار وركام شاهدناه كان موقعاً التقطت صورته من الجو أو على الأرض، كل مصنع مهدم وبلدة مدمرة. إن آلة التصوير في ذهن كل روسي هي نذير بدمار آت. وعندما تجول في روسيا تعرف ما أعني».
والآن أنا أفهم لماذا كانت اليافطات «السخيفة» في ميناء الإسكندرية تقول: «ممنوع التصوير تحت طائلة العقاب». أما آنذاك، فكانت مجرد بواخر روسية سياحية تحمل عائلات الخبراء. وهؤلاء جميعاً كانوا قادمين من بلد صورته طائرات الألمان ثم حولته إلى ركام.
في الستينات والسبعينات كنا أيضا نعتقد أن أحاديث السوفيات المتكررة عن السلم و«الشعوب المحبة للسلام» هو مجرد كلام دعائي تطلقه دولة جبارة عسكرياً. لكن الروس فقدوا ملايين الأحباء وهم يقاومون الاحتلال النازي. وعندما وصل شتاينبك وروبرت كابا بعد عامين من نهاية الحرب كان لا يزال هناك دمار كثير تلتقط له الصور وتكتب في وصفه النصوص.
ومع ذلك لم يلق «يوميات روسية» آنذاك رواجاً، لأن الأميركيين كانوا يشككون في ميول المؤلف والمصور ويعتقدون أنهما يروِّجان لدولة عدوَّة.