عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

فلسطين في ويستمنستر

الصحافة العربية بأشكالها المطبوعة والمسموعة والمقروءة في تقاريرها وبرامجها حول ما سمته «القرار التاريخي»، وأحيانا «التصويت التاريخي»، في مجلس العموم البريطاني، ساهمت، عن قصد أو عن جهل، في تضليل وتشويش أذهان الرأي العام بين قراء ومشاهدي اللغة العربية، والأكثر تشويشا معلوماتيا هم من لا يتابعون مباشرة ما يدور في برلمان ويستمنستر.
مجلسا العموم واللوردات (الشيوخ) هما جناحا برلمان عريق ينفرد عن برلمانات العالم بممارساته وسير العمل فيه وتقاليده، ولا يشابهه في ذلك إلا بعض برلمانات الكومنولث الواقعة مباشرة تحت حكم التاج في البلدان التي تنتخب حكومة برلمانية مباشرة بينما رأس الدولة هو الملكة إليزابيث، وصورتها على العملات، وطوابع البريد، وفي المحاكم، والسفارات، والمدارس، والمباني، والمؤسسات الرسمية؛ ككندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، وبلدان البحر الكاريبي.
وحتى من يتقن اللغة الإنجليزية من متفرجي الشبكات العربية، أو حتى جمهور الصحف والقنوات العربية الناطقة بالإنجليزية لا يضمن بالضرورة الاستيعاب والفهم الكامل لمسيرة العمل في برلمان ويستمنستر.
الصحافة العربية وصفت ما حدث في مجلس العموم مساء الاثنين، بتصويت الأغلبية (274 صوتا بنعم مقابل 12 لا) على ما سمته «قرارا» بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وإن كان غير ملزم للحكومة البريطانية بقبوله، (وهي المعلومة الوحيدة الدقيقة دون بقية المعلومات في تقارير الصحافة العربية)، واحد من أهم «عدة» أسباب خلط وتشويش المعلومات للمتلقي العربي، هو اللغة.
تعبير «مجلس العموم البريطاني» بدأ استخدامه في الصحافة المصرية الحديثة (الوقائع المصرية في عهد محمد علي باشا في مطلع القرن الـ19) فدخل لغة الصحافة، ثم نقلت عنها الصحف الصادرة بعد ذلك في بلاد الشام والبلدان العربية. البرلمان المصري الذي مر بـ3 مراحل (مجلس الأعيان، الذي أسسه محمد علي ثم إبراهيم باشا في عشرينات القرن 19 كمجلس شورى بالاختيار، ثم مزيج من الانتخاب والاختيار، ثم التطور إلى برلمان منتخب كاملا في عهد الخديو سعيد باشا في نهاية أربعينات القرن 19، وثالثا أرقى البرلمانات المصرية في انتخابات 1922 لحكومة سعد زغلول باشا ودستور 1923)، كان مثل نظام ويستمنستر ما بين 1923 - 1954 (حتى جمده نظام انقلاب يوليو 1952) بمجلس شيوخ يمثل حكماء الأمة، ومجلس نواب منتخب كاملا، والحزب (أو الائتلاف) صاحب أكبر عدد من مقاعد البرلمان يؤسس الحكومة.
هذا النظام أتاح لـ3 أجيال من الصحافيين والقراء المصريين (مواليد ما بين 1855 - 1945) والعرب الذين شبوا أو درسوا في مصر، فهما عميقا لنظام ويستمنستر، لكن جيل صحافة العهد البرلماني أصغر أبنائه في السبعينات عمرا.
وأفسد نظام التعليم (عندما حلت وزارة التربية بمفهومها التلقيني التدجيني محل وزارة المعارف بمفهومها الأبستمولوجي لنظرية المعرفة) أجيال ما بعد الحرب الثانية.
ولم يجتهد الصحافيون المصريون والعرب (حسب معلوماتي، وأرجو أن يصححها البعض إذا كنت مخطئا) في ابتكار مصطلحات دقيقة للتعبيرات البرلمانية تنير القراء والمتفرجين العرب ولا تضللهم.
ما صوت عليه نواب بريطانيا لا يسهل تعريفه بالعربية.. إنه مبادرة تحريك سياسي قدم بمشاركة نائب محافظ، وآخر عمالي، وثالث من الديمقراطيين الأحرار في أحد الأيام المخصصة لمناقشة مقترحات نواب المقاعد الخلفية.
مذكرة تفعيلية بتوصية (لا ترجمة دقيقة لـmotion والقواميس أو غوغل تترجمها حرفيا «حركة»)، وهي ليست resolution «قرارا» أو ورقة خضراء (مشاريع مذكرات تتحول إلى سياسة).. وليست Bill «عريضة» تناقش وبعد قبولها بالتصويت تمرر إلى مجلس اللوردات لملء الثغرات القانونية والدستورية وإدخال إصلاحات عليها، وبقبولها بتصويت اللوردات تصبح Act أو قانونا يصبح فاعلا بعد توقيع الملكة بالتصديق.
الـmotion الخاص بفلسطين لم ولن يرفع إلى مجلس اللوردات، وليس قرارا ولا يعترف بدولة فلسطينية Palestinian State وإنما توصية بتبني حق الفلسطينيين في «حالة الدولة»Palestinian Statehood.
فارق كبير من الناحية القانونية بين الاعتراف بدولة والحق في تبني حالة الدولة.
سياسة بريطانيا الثابتة لـ4 قرون الاعتراف بدول لا حكومات (مثلا لا تقبل الحكومة الحالية نظام الأسد في سوريا، لكنها لم تسحب اعترافها بسوريا كدولة، والسفير البريطاني في بلد لا يمثل الحكومة، وإنما الدولة والملكة، ولا يتغير بتغير الحكومة كحال أميركا مثلا)، وهو ما لم يشرحه الصحافيون العرب لمتفرجيهم وقرائهم.
وزير الخارجية الأسبق، السير مالكولم ريفكيند، كان الأكثر بلاغة في تلخيصه: «لا توجد حدود أو جيش أو مؤسسات سياسية كمقومات قانونية لقيام الدولة الفلسطينية للاعتراف بها».. وأضاف: «هذا الوضع الحالي لا ذنب للفلسطينيين فيه، وليس من صنعهم، وإنما هو الواقع الذي نواجهه، وعلينا العمل على تغييره»، وتغييره لن يكون بإعلان أحادي في قول وزير الخارجية السابق، ويليام هيغ، وحاليا زعيم الأغلبية البرلمانية (وهو منصب وزاري)، فالموقف الرسمي لحكومة ديفيد كاميرون هو عدم حرق ورقة الدولة التي تلعب مرة واحدة؛ ولعبها مثاليا يكون في إطار حل الدولتين بحدود القرار 242 لعام 1967 (القرار بريطاني قدمه اللورد كارادون، وزير الخارجية الراحل، بصياغة مشتركة مع المرحوم الدكتور محمود رياض، وزير الخارجية المصري، في نوفمبر/ تشرين الثاني 1967).
معلومات أساسية لم يساعد غيابها المتفرج العربي على فهم أسباب تحفظ الحكومة على الاعتراف بدولة فلسطينية حاليا.
عبارة الصحافة العربية «التصويت بأغلبية ساحقة» بلا شرح خريطة الأرقام الحزبية، أعطت انطباعا بأن الرأي العام البريطاني يضغط على الحكومة للاعتراف رسميا بدولة فلسطينية، وهو ما يخالف الواقع البريطاني.
274 صوتوا بنعم من جملة 650 (أعضاء مجلس العموم)، رغم أن زعماء المعارضة أصدروا تعليمات بالتصويت بنعم (لغرض إحراج كاميرون وحزبه أساسا، وليس لاستراتيجية سياسة خارجية، وهو ما أغفلته الصحافة العربية).
عدد نواب المحافظين (كاميرون) 303 المصوتون بنعم 274 فقط، وليس 347 (الفارق العددي).
لم أرَ صحافيين عربا في جلسة الساعات الـ6؛ ومتابعة جدل كل نائب مهم للتعرف على أسباب مواقفه (من تصريحات الجلسة أو محادثة الصحافيين في الأروقة)، جدل النواب يعكس رغبة الأغلبية في دوائرهم الانتخابية (يخصص النائب يوما أسبوعيا «للعيادة» لمقابلة أبناء الدائرة بشكل فردي، وعشية مناقشات البرلمان يقيم فرع الحزب الذي يمثله النائب اجتماعا عاما لمعرفة وجهات النظر في الدائرة)؛ ومن التضليل الادعاء أن أغلبية البريطانيين يعترفون بدولة فلسطين تغفيرا عن ذنب «وعد بلفور» الذي ركزت الصحافة العربية عليه أضعاف وقت ومساحة تناولها لطريقة عمل البرلمان والبحث وتقديم معلومات حقيقية وليست خاطئة.