عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

الأزمات ليست حلولا

يعيش العالم العربي معضلة كبرى مع التخلف والأصولية والإرهاب. إنها معركة يجب أن تخاض، وكلما تمّ الاستعجال في التصدي لها، كان ذلك أجدى وأنفع، فلا توجد حضارة حديثة لم تنجز تلك المعركة، وذلك بخلق صيغة جديدة ومبتكرة لكل حضارة أو دولة أو ديانة تتناسب مع حجم مشكلاتها وعظم طموحاتها وغاياتها.
كان العالم العربي غارقا في مشكلاتٍ تنموية بلا حدّ، ومشكلاتٍ ثقافية بلا حصرٍ، وكانت الأزمات التي يظنها البعض حلولا تؤدي به من خسارٍ إلى خسارٍ. كانت الانقلابات العسكرية في الخمسينات والستينات أزمة جديدة وانتكاسة تاريخية ظنها البعض حلا، تلك الانقلابات التي أودت بالأنظمة الملكية التي كانت أرحم وأرفق بشعوبها وأنجح في مشاريع التنمية والتقدم.
ملأت الخطابات القومية والناصرية واليسارية العالم العربي، وبشّرت ببعديها السياسي والثقافي بخلاصٍ لأزمات العالم العربي، ولكنّها تجلّت في النهاية عن فشلٍ ذريعٍ وخسائر كبرى على المستويين المادي والمعنوي، وكان البديل الذي انتشر لاحقا أكثر سوءا وتخلفا، وهو البديل الذي تمثله جماعات الإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين والخطابات المتعددة التي روّجتها على مستوى واسع، وإن لم تصل للسلطة بشكل مباشرٍ تلك التي بقيت في أيدي القوميين واليسار في الجمهوريات وبقيت الملكيات تتطور كل منها في سياقه الخاص، وهو البديل الذي خلق أزمة أكبر وظنه البعض حلا.
لم يلبث الإسلام السياسي بعد أن أصبح خيارا براقا، وبالتحديد بعد هزيمة العرب في حرب 1967 - وهي لم تكن هزيمة عسكرية فحسب، بل هزيمة ثقافية وفكرية - أن اتخذ اتجاهين متوازيين يكمل أحدهما الآخر؛ الأول ذلك الذي تبنى الإرهاب صراحة وانخرط في التخطيط والتنفيذ، والثاني الذي اتخذ سبيل التحالف مع بعض الدول العربية والإسلامية بغية التغلغل فيها والسيطرة والاستحواذ على السلطة فيها، مع عدم الاستنكار لتوسع الأول، والمواربة بشأن الموقف منه، ودعمه في بعض المناطق أو بعض الحالات.
لأكثر من 40 عاما ظلت المعادلة في العالم العربي على هذا التوازن الهش، ومع اعتبار كل المتغيرات السياسية، والتطورات الثقافية، والتغيرات الاجتماعية؛ إلا أن اختراقا كبيرا لم يحدث على المستوى الحضاري وعلى مستوى الوعي والرقي، وكانت كل الزلازل العسكرية والحروب الدولية والإقليمية تمرّ دون أن تغير شيئا حقيقيا في تلك المعادلة حتى جاءت سنة 2011 وانتقل العالم العربي لأزمة كبرى تجمع الفوضى والأصولية والإرهاب في مزيجٍ خطيرٍ، لا على المستوى السياسي فحسب، بل على المستوى الثقافي والفكري، وهي كارثة حسبها البعض حلما وأملا، وأزمة خطيرة ظنها البعض حلا.
إنها أزمة انتقلت بالعالم العربي إلى وهادٍ غير مسبوقة من التخلف، رافقها أمران أساسيان؛ الأول: صعود الهويات الأكثر تخلفا وعنفا؛ من دينية وطائفية ومذهبية وعرقية، مع تصاعد الإرهاب والعنف وجماعاته وتياراته. والثاني: تغييرات سياسية طالت الحدود الجغرافية للدول والهوية الوطنية لها.
وبتأثيرٍ من ذلك أصبح عامة الناس - لا النخب - يتساءلون عن الحدود بين دولة العراق ودولة سوريا؛ لأن تنظيما إرهابيا هو تنظيم داعش محا عمليا الحدود السياسية بين البلدين، وأصبح يسمي نفسه «دولة»، وأكثر من هذا تسميته لنفسه بـ«الخلافة»، ما يعني أنه ينشد إلغاء الحدود السياسية بين كافة البلدان الإسلامية، وفي الوقت ذاته صار الناس العاديون يتحدثون عن الأقلية «الإيزيدية» الدينية المسالمة في العراق، وعن الأقلية «الكردية» العرقية في العراق وسوريا، وعن الأقلية «العلوية» المتوحشة في سوريا، وعن الأقلية «الحوثية» المتوحشة في اليمن.
وجود الأقليات قديمٌ في المنطقة، ولكن الجديد اليوم هو أنها أصبحت أولوية في حضورها السياسي والديني والثقافي، إنْ بالنسبة لصاحب القرار السياسي دوليا وإقليميا، وإنْ بالنسبة للقارئ والمتابع والمحلل. ويصح الأمر ذاته على التنظيمات والتيارات الأصولية الإرهابية التي تطورت وتوسعت بدلا من أن يتم إنجاز الرفض لها وتجاوزها.
ظلّ الأعم الأغلب بالعالم العربي في كل هذه المرحل على قناعة راسخة بأن الحل السياسي لا الحل الديني والثقافي هو الحل الصحيح لكل الأزمات مع اختلاف نوعية الحل وتوجهه، وهو حل أشبه ما يكون بوضع العربة قبل الحصان، وهو الحل الذي يقول بأن التغيير السياسي يجب أن يكون هو القائد والرائد، وهو الهدف والغاية، وبقية الأمور تابعة له، وهذه هي أزمة الأزمات التي تحتاج رؤية مختلفة ووعيا صلبا ليكون عكسها هو الحل الحقيقي المغفول عنه طوال تلك العقود.
حضاريا فقد أثبتت تجارب الأمم أن الإصلاح الديني يأتي في المقدمة للقطع مع الماضي الديني، لا بالنظر للدين نفسه بل بالنظر لقراءاته وتأويلاته السائدة في لحظة تاريخية معينة، ويمكن هنا النظر للحلّ في الحضارة الغربية كمثالٍ بالتوازي مع النظر للحلول الأخرى في الشرق مع اختلاف الديانات وتعددها، كما أثبتت تجارب الدول على اختلاف حلول السياسة، فحين وصل الغرب للنموذج الديمقراطي الحديث ضمن سياقه الحضاري، فقد وصلت دول الشرق لنماذج مختلفة، منها النموذج الذي يمكن تسميته «الديمقراطية الموجهة» في الصين أو سنغافورة.
المقصود من هذا السياق هو أننا في العالم العربي بحاجة كأمة وكدولٍ لإعادة ترتيب الأولويات بين الإصلاح السياسي والإصلاح الديني، فإصلاح الخطابات الدينية والثقافية والاجتماعية يأتي أولا، ويقع التطوير السياسي في مرتبة لاحقة أو موازية، ولكن بدرجة أقل أهمية.
في العالم العربي اليوم ثمة نموذجان لما يعرف بـ«الدولة الفاشلة» تتمثلان في ليبيا واليمن، حيث تعيش الدولتان في حالة فقدت فيها الدولة السيطرة على أراضيها، وفرض هيبة الدولة، واحتكار حق استخدام العنف المشروع، وفقدانها للمشروعية السياسية الجامعة، وعجزها عن توفير الحد الأدنى من الخدمات للشعب، كما أنها عاجزة عن الالتزام بأي تعهدات أو شراكاتٍ مع المجتمع الدولي، دولا ومؤسسات.
عودا على بدءٍ، فإن الاهتمام بإصلاح الخطاب الديني يجب أن يكون أولوية تسعى لها الأمم للعودة لمعترك الحضارة والدول، لضمان نجاح خطط التطوير التنموي الشامل والمستمر، وهي أولوية يجب أن تتولاها الدولة الوطنية الحديثة كل بحسبه، وليس لها نموذجٌ قارٌّ وثابتٌ، لا على المستوى الدولي ولا الإقليمي.
أخيرا، فإن أولوية التطوير الديني والثقافي والاجتماعي مقدمة على التطوير السياسي، وما لم يتم إنجاز التطوير الديني فإن التطوير السياسي سيتجه للوراء، كما حصل من قبل.