لعل التاريخ تجسد في مقولة جبران خليل جبران: «إذا الحب أومأ إليكم فاتبعوه حتى وإن كانت مسالكه وعرة وكثيرة المزالق»، أو أن جبرانا قد تعلم منه، فالتاريخ يُسجل عناصر كثيرة تؤثر في مجراه؛ منها على سبيل المثال لا الحصر القوة العسكرية، والثراء المادي للأشخاص والدول، والطموحات الفردية لرجال الدولة.. ولكن هناك عنصر خفي كثيرا ما لا ندركه عند شرح التاريخ وفهم السياسة والواقع، إنه عنصر الحب والمشاعر العاطفية التي تلعب في بعض الأحيان دورها أيضا في تغيير حياة رجل الدولة والدولة التي يمثلها، وهنا تحضرني مقولة شهيرة للكاتب الشهير إيمانويل ولارشتين التي يستفسر فيها عما كان سيحدث «لو أن منخار كليوباترا كان أكبر مما كان عليه؟»، أي كيف كانت عجلة التاريخ ستدور «لو أن كليوباترا كانت أقبح من شكلها الطبيعي ولم يكن يوليوس قيصر ومن بعده ماركوس أنطونيوس قد أحباها؟». ولكن حقيقة الأمر أن الحب في كثير من الأحيان لا علاقة له بالشكل أو المظهر، وما يعنينا هنا هي محاولة فهم بعض النماذج التاريخية التي سيطر عليها الحب فغير من خلالها مجرى التاريخ.
لعل أقرب نموذج يخطر على البال كان نموذج «البرنس إدوارد» ولي العهد البريطاني، الذي يظل حتى يومنا هذا رمزا للحب والتضحية في ثلاثينات القرن الماضي. فالمعروف أن الأمير إدوارد الذي كان وليا للعهد البريطاني كان يستعد ليخلف والده جورج الخامس، وبالفعل جرى تتوجيه ملكا لبريطانيا في 1936، ولكن أحدا لم يكن يتخيل أن الحب سيغير مصير الملكية، فسرعان ما تدخل الحب ليغير المعادلة السياسية له، فلقد كان الرجل على علاقة بامرأة أميركية تدعى واليس، عرفها أثناء أحد الاحتفالات التي شارك فيها وهي متزوجة من زوجها الثاني رجل الأعمال سمبسون، وأصبحت هذه العلاقة تتناقض تماما مع استعداداته لوراثة العرش البريطاني، وقد كان البرلمان يمكن أن يقبل فكرة أن تكون الملكة من أصول أميركية، ولكن المشكلة كانت تكمن في أنها كانت مطلقة مرتين، وأن الأمير قد تعرف عليها وهي متزوجة، كذلك، فإن التقاليد البريطانية تضع الملك على رأس الكنيسة، وكانت الكنيسة تمنع زواج الملك من مطلقة، فكان عليه الاختيار، فلم يستطع الرجل مقاومة هذا الحب، فما كان منه إلا أن سلم مقاليد حياته له، وقرر التخلي عن مُلكه وأغلب ما يملكه من جاه في سبيل حبه، فقد قرر التنازل عن العرش لشقيقه في سبيلها بعد 326 يوما قضاهم ملكا لبريطانيا، وفي كلمة مؤثرة للأمة، ختم الرجل مستقبله السياسي بجملة شهيرة قال فيها: «لقد وجدت من الصعب أن أحمل العبء الثقيل لمسؤولياتي وأن أمارس مهامي بصفتي ملكا بالشكل الذي أرغب فيه دون مساعدة ودعم المرأة التي أحبها»، وهي جملة أغلب الظن أن يفهمها العاشقون ويصعب على الساسة فهمها.
ولكن قصة «الملك جورج السابع» أو «الأمير إدوارد» قبل تولى العرش لم تكن الوحيدة التي كانت مسيطرة على عالم السياسة في بريطانيا، فلقد كانت هناك قصة حب أعتقد أنها كانت أكثر عمقا، وهي التي ربطت بين البطل الإنجليزي العظيم هوراتشيو نيلسون، أشهر القادة الإنجليز على الإطلاق وبطل معركتي «أبي قير البحرية»، و«ترافلجر» الشهيرة التي قضت على الفرص الحقيقية لنابليون بونابرت في السيطرة على القارة الأوروبية.. فلقد ولد هذا القائد الشهير ضمن 7 إخوة وأخوات، وكان المقرب الحقيقي لأمه التي ماتت وهو في الثامنة من عمره، ويبدو أن فقدانه أمه أثر عليه كثيرا وجعله شخصية منطوية ومتحفظة، وأبعد الحب عن قلبه، وعندما دخل البحرية الإنجليزية تدرج في المناصب إلى أن أصبح قائدا للسفينة الحربية «فيكتوري»، ثم تزوج من زوجته بشكل تقليدي، ولكن يبدو أن الحب لم يجمع بينهما، ففترت العلاقة تدريجيا، خاصة وهو في البحار، فأصبح الرجل مغتربا عنها. ولم يكن الرجل فاقدا للحب فقط، بل إنه فقد ذراعه اليمنى وعينه اليسرى أثناء معاركه الحربية، التي منها معركة كوبنهاغن الشهيرة والتي حسمها بجسارته وعبقريته وثباته الانفعالي على الرغم من الخلافات الواضحة مع قائده الذي كان يكنّ له بعض الحقد والغيرة.
لم يكن نيلسون يعرف أن القدر قد خبأ له حياة موازية، فقلد كُلف الرجل بقيادة الأسطول الإنجليزي للبحث عن الأسطول الفرنسي الذي كان يقل الحملة الفرنسية على مصر في عام 1798، وبعد الانتصار العبقري له في معركة «أبي قير البحرية» وتدميره الأسطول الفرنسي في معركة مسائية أنارت السماء، ذهب الأسطول البريطاني إلى نابولي في ضيافة السفير اللورد هاميلتون، وهنا تعرف نيلسون على زوجته «إيما» التي كان يكبرها بقرابة 10 سنوات، وقد كانت لهذه المرأة خلفية معروفة لدى الجميع، فلقد كانت عشيقة أحد أكبر الساسة البريطانيين، الذي تخلص منها بإرسالها إلى سفيرهم في نابولي الذي اتخذها عشيقة ثم زوجة له، وكان اللورد هاميلتون يكبرها بقرابة 30 عاما، وسرعان ما بدأت العلاقة تتطور بينها وبين نيلسون، فلقد كان البطل الأسطوري الذي تتطلع له كل إنجلترا بكل تقدير وذلك على الرغم من شخصيته غير المنفتحة اجتماعيا. وكان الانجذاب بينهما واضحا للعيان والجميع، وسرعان ما تحولت العلاقة إلى قصة حب عميقة للغاية بعلم زوجها الذي لم يأبه كثيرا، ثم أصبح الأمر مكشوفا لدى الجميع، وبوصول نيلسون إلى إنجلترا بصحبة اللورد وزوجته، بدأت الثرثرة في كل الأوساط السياسية والاجتماعية، ولكن شخصية نيلسون لم تأبه كثيرا إلى هذا الكلام، فلم يكن الرجل على استعداد لأن يفقد الحب الوحيد الذي شعر به في حياته بعد وفاة أمه، وظل على عناده وموقفه المتشدد على الرغم من الظروف غير الأخلاقية التي أحاطت بهذا الحب.
لقد عاش نيلسون في وضع شاذ للغاية مع اللورد وزوجته، فلقد رفض الاثنان فكرة الطلاق لأسباب اجتماعية، ولكن الأمر تطور، خاصة بعد أن أنجبت إيما من نيلسون ابنتها هوراشيا بالسفاح، واستمر هذا الوضع الشاذ إلى أن مات زوجها اللورد هاميلتون. هنا عاش نيلسون مع إيما وابنتهما في ميرتون بلندن. وتشير أغلبية الكتب التاريخية إلى أن هذه كانت أسعد فترة في حياة هذا الرجل التعيسة على الرغم من السلطان والشهرة والمال. وقد رفضت قيادة البحرية البريطانية هذه العلاقة العاطفية، وهو ما أثر مباشرة على مستقبله العسكري وبدأ يضعه في عزلة لا تتناسب مع إنجازاته، فلقد رفضت إسناد أي قيادة له بعدما كان أمره مثار ثرثرة الجميع. ولكن الظروف السياسية فرضت على القيادة أن تعيده مرة أخرى إلى قيادة الأسطول لمعركة فاصلة تحمي بريطانيا من فرص غزو نابليون لها. وبالفعل غادر نيلسون مقر إقامته مع إيما، وخرج لا يعلم أن هذه ستكون آخر مرة يرى فيها محبوبته عام 1805. وقد خلّدت بريطانيا كلها انتصاره الرائع إلى يومنا هذا في أكبر ميادينها الذي سمي ميدان «ترافلجر» أو «الطرف الأغر» على اسم معركته الشهيرة، كما يسمى بالعربية. ومات الرجل بعدما عرف انتصاره العظيم بسويعات قليلة، وكان آخر مطلب ذكره لنائبه هاردنج هو أن يحتضنه لمواجهة الموت، وهو مطلب لا يتسق مع شخصيته أو طباعه لمن يعرفونه. وزهقت روحه وهو يقول: «حمدا لله أنني قمت بواجبي». وبموته انتهت قصة الحب العميقة والغريبة وغير الأخلاقية بين نيلسون وإيما.
إن النماذج السابقة تعكس بحق أن السلطان الوحيد الذي لا أعتقد أن أي عامل آخر قد يتفوق عليه إذا ما تمكن من الإنسان، هو الحب؛ فهو العنصر الذي كثيرا ما يجهله الساسة في حساباتهم، فعندما تدق ساعته ويؤذن له بامتلاك روح الإنسان، فيبدو أنه لا مناص منه إلا بصعوبة بالغة.. إنه سلطان من نوع غريب يختلف عن السياسة والمال والجاه؛ سلطان قد يكون أوقع وأقوى من الإرادة الإنسانية العقلية أو هوى السياسي وطموحه.. إنه العامل الذي لا تفسير منطقيا له عندما يصيب الساسة ويسيطر عليهم.
في الحب والسياسة والتاريخ
https://aawsat.com/home/article/196581
في الحب والسياسة والتاريخ
في الحب والسياسة والتاريخ
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة