سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

أزمة الرئيس اليمني!

سوف يبقى يوم 21 سبتمبر (أيلول) 2014، يومًا كئيبًا في حياة كل يمني، ففيه زحف الحوثيون إلى العاصمة صنعاء، وسيطروا على أغلب مقرات الحكومة في أنحائها، فيما يشبه الكابوس الذي لا ينافسه في ثقله، إلا ثقل جبال صنعاء ذاتها.
وعندما أقول «كل يمني» فإنما أقصد المواطن الذي يظل ولاؤه النهائي هناك لبلده وحده، ولوطنه وحده، ولأرضه وحدها، لا لأرض غيرها، ولا لوطن غيره، ولا لبلد سواه.
وليس هناك يوم آخر أكثر كآبة لكل يمني من ذلك اليوم إلا يوم 23 من الشهر نفسه، أي بعدها بـ48 ساعة، عندما خرج فيه الرئيس عبد ربه منصور هادي على اليمنيين، ليتكلم للمرة الأولى، شارحًا في أسى أبعاد ما جرى!
ورغم كثرة ما قاله الرئيس منصور، فإنني توقفت بشكل خاص أمام الفقرة التي قال فيها ما يلي: «عندما تسلمت الدولة في عام 2012 لم أتسلم منها إلا شبه دولة لسلطة مفككة، ومؤسسات متغولة في الفساد، وجيشا مقسم الولاءات، ومحافظات عدة خارج سيطرة الدولة، ولم يكن من الممكن تغيير كل هذا في عامين قضيتهما في إطفاء الأزمات، ومحاولة تحقيق التوافقات، وتجنيب البلاد الحروب قدر ما استطعت، وأعترف لكم بأن الكرسي الذي أجلس عليه، لم يكن أبدًا وجاهة ولا منصبًا، بل كان كرسيًا من نار، وأمانة ثقيلة أجمعتم في مرحلة معينة على تكليفي إياها».
تأملت هذه الكلمات، ضمن كلام كثير قاله الرئيس، وأرجوك أيها القارئ الكريم أن تعود لتقرأها من جديد، لأن فيها أشياء لا بد أن تستوقفك، في قراءتك الثانية، كما استوقفتني أنا بالضبط.
فمما استوقفني فيها، مثلاً، أنها تقول لنا، بصدق، إن على الذين لاموا الرئيس عبد ربه، على ما حدث، لا بد أن يراجعوا أنفسهم، ليكتشفوا عند المراجعة الأمينة، وفي أثنائها، أن «عبد ربه» مسكين، وأنه معذور، وأنه قد صح منه العزم، كما قال شاعرنا زمان، ولكن الدهر أبى!
صح منه العزم فاكتشف، ويا لهول ما اكتشف، أن الجيش الذي كان يعوّل عليه بالأساس، في حماية صنعاء، بشكل خاص، باعتبارها العاصمة، ثم في حماية اليمن كله، إنما هو جيش «مقسم الولاءات».
دعك، من فضلك، من كل ما قاله في كلماته الحزينة، عن السلطة المفككة التي ورثها، وعن المحافظات التي هي خارج السيطرة، وعن الفساد المتغول، وعن.. وعن.. فكل هذا كوم، بينما حكاية «الجيش مقسم الولاءات» كوم آخر تمامًا!
وليس سرًا أن البلاد العربية القليلة التي نجت من فوضى ما أطلقوا عليه «الربيع العربي» قد نجت، لشيء واحد، بل وحيد، هو أن فيها جيشًا صاحب ولاء أصيل للبلد الذي يعمل على أرضه، ويحميها، ويصونها، من دعاة العبث!
والقصة في اليمن، باختصار، أن صنعاء إذا كانت قد سقطت في أيدي جماعة من الحوثيين، لا ولاء عندهم لبلدهم الذي يعيشون على أرضه، ويتنفسون هواءه، فإن الذي سقط يومها، ليس صنعاء بالأساس، فهي سوف تعود اليوم، أو غدًا، وسوف تكون عاصمة اليمن الذي عرفناه، لأنه لا توجد جماعة تستطيع أن تهزم دولة.. لا توجد.. مهما كانت قوة الجماعة، ومهما كان هوان الدولة.
الذي سقط سقوطًا حقيقيًا يوم 21 سبتمبر ليس صنعاء، ولا الرئيس عبد ربه، وإنما هو الرئيس السابق علي عبد الله صالح.
سقط سقوطًا مدويًا في نظر كل يمني محب لوطنه، وفي نظر كل عربي متشوق لأن يرى اليمن حيث يجب أن يكون، كدولة، وكوطن، وكأرض!
سقط في أعيننا جميعًا ليس لأن أنصاره كما قيل في الأخبار المصاحبة لزحف جماعة الحوثيين، قد مالوا إليهم، وتواطأوا معهم، وتحالفوا إلى جانبهم.. لا.. ليس هذا هو سبب سقوطه.. ولم يسقط لأن قيادات الشرطة التي رباها في عصره، قد سلمت مفاتيح العاصمة للجماعة، وعادت إلى منازلها، وكأن الأمر لا يعنيها، أو كأن الرئيس عبد ربه كان عليه أن يجلب شرطة أخرى، من بلد آخر، لحماية عاصمته، وصد كل من يفكر في الاعتداء عليها، أو ترويع أهلها!
لا.. لم يسقط علي عبد الله صالح لهذه الأسباب كلها، وإنما سقط لأنه قضى في الحكم 33 عامًا، كانت كفيلة ببناء بلد بكامله من عدم، وليس مجرد تحديث دولة مثل اليمن، ولا إعادة بنائها، ولا الإضافة إلى ما فيها.. فلا يستطيع المرء أن يتخيل أن يقضي حاكم، أي حاكم، 33 عامًا في الحكم، ثم يأتي الحاكم الذي بعده، ليتبين له، أن البلد على تلك الصورة المروّعة التي وصفها عبد ربه في كلماته.
ماذا كان يفعل علي عبد الله صالح في 33 عامًا، إذا كانت محافظات عدة في اليوم التالي لمغادرته الكرسي، خارج السيطرة، وإذا كان الفساد متغولا إلى هذا الحد، وإذا كانت السلطة مفككة إلى هذه الدرجة..؟!
يأتي الرئيس عبد ربه ليأمر جيشه بأن يحمي بلده، وبأن يردع الذين يفكرون في العبث بأمنه، فيكتشف أنه قابض على هواء، وأن جيشه الذي من المفترض أن يستند إليه، سراب، وأن قواته المسلحة التي هي رهانه الأخير، إنما هي وهم!
ما الذي كان الرئيس عبد ربه يستطيع أن يفعله إذا كان قد اتضح له في لحظة قاسية أن الجيش الذي جاءه من 33 عامًا مع علي عبد الله صالح، إنما هو جيش «مقسم الولاءات»؟! ما أقساها من عبارة، وما أحزنها من لحظة، وما أسوأها من أيام، تلك التي قضاها صالح في السلطة، مؤتمنًا من أبناء وطنه، فإذا به في لحظة كاشفة كهذه، عبء على البلد، وعلى الوطن، وعلى الأرض، وإذا به لم يضع اعتبارًا لهذا كله، وإذا به طوال 33 عامًا.. نعم 33 عامًا.. وأكررها هنا لعلنا ندرك مدى طولها، ومدى ما كان صالح يستطيع أن يقدمه فيها.. أقول، إذا به في غاية المطاف، لا يهمه بلد، ولا يشغله وطن، ولا تأتي على باله أرض!
ماذا سوف يذكر التاريخ عنك إذا ما راح يقارن بين اليمن السعيد الذي عشنا نسمع عنه واليمن الذي تركته لنا من ورائك؟!
ما أشقى بعض بلادنا بمسؤوليها، وما أحزنها، وما أتعسها! وما أتعس الرئيس عبد ربه في بلد كل ذنبه أن علي عبد الله صالح كان رئيسًا له ذات يوم!