باقر النجار
TT

«داعش» وتهديداتها لدول الخليج العربي

هل الخليج بعيد عن تهديد دولة الخلافة في العراق وبلاد الشام؟ وهل يكفي مشاركة جل دول المنطقة في عمليات التحالف ضدها في صد تهديداتها للمنطقة؟ وإذا ما كانت دول المنطقة قد استطاعت أن تفلت خلال العقود الخمسة أو الستة الماضية من تهديد التيارات القومية، والتيار الناصري وجماعات اليسار في خمسينات وستينات، ولربما سبعينات القرن الماضي، فهل هي قادرة على تجاوز التهديد الداعشي؟
فالمد الإسلاموي في عموم المنطقة العربية، والذي جاء مع قيام الدولة الإسلامية في إيران، تمدد وتقوى في المنطقة بفعل التحالف الذي نشأ بين الدولة العربية أو بعضها والجماعات الإسلاموية في مواجهة التيارات اليسارية ودول ذات نزوع ماركسي في أفغانستان وجنوب اليمن. فإذا ما استطاعت المنطقة تفادي صيحات تصدير الثورة بعيد الثورة الإيرانية فهل تستطيع دول المنطقة صد التهديدات القادمة لها من الشمال، رغم «تهوين» البعض لها؛ إذ بتنا الآن أمام الجيل الثالث من السلفية الجهادية، وهو جيل قد استطاع خلال السنوات الثلاث الماضية، أن يعبئ الشارع المحلي لصالحه، وأن يقيم ولأول مرة في تاريخ المنطقة، دولته التي باتت تقوي من حضورها مع الوقت. كما أننا بتنا في مواجهة جماعات لم تُصدر لنا أفكارها من الخارج، بل هي في واقعها نتاج سياقات اجتماعية وسياسية وثقافية تشكلت في مجتمعاتنا، بل نتاج احتضان غير مدروس لتيارات وجماعات باتت عواقبها على المنطقة عظيمة.
لقد ساهم إسقاط النظام الملكي في أفغانستان في إطلاق كل أشكال النوازع المنفلتة من التضامنيات التقليدية: القبلية والعرقية والطائفية، وهي نوازع لم تنتهِ حروبها حتى في أفغانستان حتى مع إسقاط طالبان و«القاعدة» على يد التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة بعد تدمير برجي نيويورك على يد إرهابيي «القاعدة»، بل إن المخاوف ما زالت قائمة رغم مرور 13 عاما، فالكثير من الساسة الأفغان لا يخفون مخاوفهم من أن انسحاب قوات الولايات المتحدة سيقود إلى سقوط النظام الأفغاني سريعا في يد الجماعات الطالبانية. ألم يقُد سوء إدارة وفساد الطبقة السياسية العراقية وتكالب أحزابها نحو مصالحها الفردية والحزبية والطائفية الضيقة، بالإضافة لانسحاب القوات الأميركية إلى ما هو عليه العراق الآن، بل إن حجم الاختراقات التي أحدثتها طالبان في النظام والقوات الأفغانية سيقود إلى سيناريو شبيه بسقوط الموصل ومحافظات الغرب العراقي في يد الجماعات الداعشية والقبلية والبعثية العراقية. إن القوة التي باتت عليها الجماعات الطالبانية في أفغانستان وباكستان إنْ هي إلا انعكاس لحقيقة أن الجماعات القبلية في كلا البلدين قد أصبحت إحدى أهم البيئات الحاضنة، ليس فقط للجماعات الطالبانية، وإنما للفكر والتفسير المتشدد للدين الإسلامي، وثانيا فقد تشكل على مدى العقود الثلاثة الماضية بيئة دينية قد اتسمت بالمحافظة وتمتلك كل مقومات البقاء المادي واللوجيستي، وهي قد استطاعت أن تكون في غنى عن أي مساعدات مالية أو لوجيستية رسمية بفعل حجم الدعم المتأتي لها من الجوار الإسلامي، بل إنها باتت من الامتداد والكبر بحيث يصعب على النظام في كلا البلدين ضبطها وكبح جماح تمددها.
ما نريد قوله هنا، إن حرب التحالف التي تقودها الولايات المتحدة على دولة الخلافة في بلاد الشام والعراق قد يكلل بالنجاح من الناحية العسكرية، إلا أن الفشل في تفكيك البيئة الاجتماعية والثقافية والدينية للفكر والممارسة الطالبانية، بالإضافة لفساد الطبقة السياسية الذي جاء مع الاجتياح الأميركي لأفغانستان قد أعاد القوة للجماعات الطالبانية حتى باتت تهدد وجود النظام الجديد. وبالمثل، فإن القوة العسكرية قد تميل لقوى التحالف في مواجهة «دولة الخلافة»، إلا أن المواجهة الحقيقة تتمثل في قدرة الدولة في الخليج على تفعيل القطيعة مع المنظومة المؤسساتية والفكرية التي باتت «مفرخة» لكل قوى التطرف الديني والسياسي في مجتمعات الخليج العربي. فليس سرا القول إن منطقة الخليج كانت البيئة الحاضنة لكل القوى الإسلامية المطاردة في البلاد العربية، وهي فلول/ قوى ساهمت في البناء الفكري والسياسي للجماعات الإسلاموية الخليجية، كما أن انتشارها في النظام التعليمي بمستوياته المختلفة يفسر بعضا من عمليات التشكيل الفكري الذي باتت عليه الأجيال الخليجية الجديدة، بل إن بعضا من قياداتها المحلية قد تسنم بفعل ذلك قيادة مؤسسات رسمية تم توظيفها من قبلهم في رسم سياسات الجماعة وتحالفاتها في الفضاء المحلي والإقليمي.. وإذا ما كانت هذه التحالفات قد نُسجت مع قيادات وجد البعض فيها قدرا من «الاعتدال» السياسي رغم سمة اللامرونة في مواقفها الاجتماعية وتصلبها الديني، إلا أن هذه الجماعات ككل القوى السياسية الشمولية وبفعل الضغوط التي تخضع لها فإنها بالضرورة مؤهلة «لتفريخ» جماعات وأجيال جديدة تتصف عادة بالتطرف وعدم الانتظام، بل إن سياقاتها الفكرية والسياسية تدفع نحو مزيد من التطرف في الأفكار والمواقف، أي بمعنى آخر أن الأجيال الجديدة من الجماعات السلفية الجهادية قد باتت أكثر تشددا في تفسير النصوص الدينية وأكثر نزوعا نحو تبني العنف مع كل المختلف الديني والسياسي والاجتماعي.
فالحركة الإسلاموية في منطقة الخليج تمتلك بنية واسعة من المراكز الدينية: والتي تأتي على شكل مراكز لتحفيظ القرآن ومراكز تبليغ ومساجد فرعية، غالبا ما تكون في الأطراف البعيدة في أنشطتها عن المراقبة الرسمية وجلسات وعظ رسمية وغير رسمية. كما أسند لبعضها مواقع الإشراف على المناهج التعليمية التي جاءت في الكثير من مضامينها متسقة مع المواقف الفكرية والتفسيرات الدينية المتشددة لهذه القوى؛ فالتشدد هو في واقع أمره نتاج لتلك البيئة التي صيغت تحت أعيننا أحيانا وبرضا منا غير مدركين حينها بتبعات ذلك على مجتمعاتنا على المدى المتوسط والبعيد. وتكشف فيديوهات ما يسمى «المجاهدين» الخليجيين في بلاد العراق والشام، التي تأتي إلينا عبر «يوتيوب» حجم التهديد الذي يحمله هذا التنظيم للحكم والمجتمع بكل مكوناته في مجتمعات الخليج.
بمعنى آخر، إن القوى الإسلاموية وبفعل تمفصلها في السياق المؤسساتي الرسمي كما هو حضورها القوي الخيري والتوعوي وقدرتها على الوصول لجماعات العوز في الكثير من مجتمعات المنطقة قد جعل منها قوة ذات تأثير في أوساط قطاعات واسعة في المجتمع. ويكفي القول إن عمليات التشكيل الفكري الذي خضعت له المنطقة خلال السنوات الثلاث الماضية قد جعل التعاطف وفق الاستفتاءات غير الرسمية في بعض مجتمعات المنطقة لدولة الخلافة وممارساتها عاليا.
خلاصة القول، إن التهديدات القادمة لمجتمعات المنطقة من «داعش» هي تهديدات جدية لا يمكن التهوين منها لاعتبارات ذاتية أو عصبوية. فقد لا يمتلك التنظيم قوة عسكرية كاسحة مقارنة بدول الخليج والولايات المتحدة ، إلا أن الخطورة الكامنة له تتأتى من حقيقة قدرته عبر قنواته الفكرية والقبلية والمذهبية على إحداث اختراقات مهمة وخطيرة في عمق هذه التجمعات، فهو قد وظف فترة السماح في المرحلة السابقة ليحدث ذلك وليكسب قطاعا على مستوى المؤسسة الدينية والمجتمع وليخلق قدرا من التعاطف معه، بل والمؤيد لما يسمى انتصاراته في العراق والشام واليمن.