زاهي حواس
عالم آثار مصري وخبير متخصص بها، له اكتشافات أثرية كثيرة. شغل منصب وزير دولة لشؤون الآثار. متحصل على دبلوم في علم المصريات من جامعة القاهرة. نال درجة الماجستير في علم المصريات والآثار السورية الفلسطينية عام 1983، والدكتوراه في علم المصريات عام 1987. يكتب عموداً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» حول الآثار في المنطقة.
TT

الهرم المدرج بين العلم والجهل

عانى الهرم المدرج بسقارة من مشكلات كثيرة وخطيرة؛ وكانت أحجاره قد بدأت تنهار من جميع جوانبه الأربعة، وازدادت الشقوق والشروخ العميقة داخل حجرة الدفن التي يصل ارتفاع البئر التي تضمها داخل الهرم لمسافة 29 مترا وهو معجزة معمارية باهرة. ولم تُرمم الحجرة والبئر سوى في عصر الأسرة 26 الفرعونية والمعروفة باسم العصر الصاوي؛ أي إن الهرم المدرج لم يرمم منذ 2500 سنة! وكان كل ما جرى في القرن الماضي هو قيام المهندس الفرنسي الراحل جان فيليب لوير بتدعيم وصلب المدخل الجنوبي للهرم.
والغريب أنني عندما توليت مسؤولية الآثار في مصر وجدت أن الدكتور حسن فهمي - أستاذ العمارة والترميم المعماري بكلية الهندسة - جامعة القاهرة - تقدم بمشروع لترميم الهرم المدرج وحمايته ظل حبيس الأدراج لمدة 20 سنة، تطور خلالها العلم وتطورت المعدات والأدوات ولكن ظلت الفكرة تمثل أفضل الحلول للحفاظ على الهرم.. وهنا بدأنا في تطبيق العلم في ترميم أقدم هرم في مصر؛ بناه المهندس العبقري «إيمحوتب» للملك زوسر مؤسس الأسرة الثالثة والدولة القديمة.
وعقدت لجان علمية من الأساتذة والمتخصصين لمناقشة مشروع الترميم، واتفقوا على كل خطوات ترميم الأثر من الداخل والخارج. بعدها طرح مشروع الترميم في مناقصة عامة بين الشركات المتخصصة. وجرى اختيار إحدى الشركات المصرية لتنفيذ مشروع الترميم.. واختير للمشروع مدير يساعده مهندسون معماريون ومرممون مع وجود الاستشاري لمتابعة التنفيذ. وبدأ ترميم الجانب الشمالي وعاينه الكثير من علماء الآثار الأجانب ووافقوا على تنظيف الأحجار من الأتربة، وبعد ذلك بدأت عملية التدعيم باختيار أحجار جديدة سواء من أحجار الهرم نفسه الساقطة على الأرض أو من أحجار الهضبة بسقارة أي من نفس المحجر الذي استخدمه إيمحوتب في بناء الهرم.. وبعد ذلك جرى البدء في تنظيف حجرة الدفن وإظهار أجزاء التابوت الجرانيتي لأول مرة، وكذلك تنظيف الممرات الداخلية وعثرنا على ممرات جديدة، وأصبح مؤكدا أن طول الأنفاق والممرات أسفل الهرم يصل إلى نحو 7 كيلومترات! هذه الأنفاق والسراديب والممرات تمثل فكرة المصري القديم عن العالم الآخر.
وقد قامت الشركة المنفذة للمشروع بالاتفاق مع شركة إنجليزية بعمل السقالات الحديدية داخل حجرة الدفن، والتي عن طريقها يجري تدعيم جدران حجرة الدفن، بالإضافة إلى سقف الحجرة التي رُممت في العصر الصاوي، وعثر على نقوش تؤكد عملية الترميم، وبعد ذلك جرى ترميم الجانب الشرقي والجنوبي بعد إزالة أعمال الترميم القديمة التي غيرت في النسب التشريحية للهرم المدرج.
إذا كان ما سبق يمثل استخدام العلم في الترميم وحماية آثارنا؛ فإن الجهل كان هو ما نشرته صحيفة مصرية على لسان شخص لم أسمع عنه أو عن عمل له من قبل، ويدعي أنه أثري ويقول إن الهرم يرمم بأسلوب خاطئ؛ وإن اليونيسكو رفعته من قائمة التراث العالمي؛ وغيرها من الأكاذيب. بعدها بدأت زمرة من النصابين يعرفهم كل أثري ومرمم في مصر؛ في ترويج إشاعات عن انهيار الهرم بسبب الترميم الخاطئ!! وعجبت لأمر الصحف ووسائل الإعلام الأخرى التي انساقت وراء أخبار مثيرة يطلقها نصابون ودون محاولة اللجوء إلى فريق المهندسين والمرممين؛ وعلى رأسهم كما ذكرت الأستاذ الدكتور حسن فهمي؛ والاستشاري الأستاذ الدكتور مصطفى الغمراوي وذلك لتبين الحقيقة. الكارثة التي تواجه تراثنا الأثري في مصر ليست تدخل النصابين الباحثين عن الشهرة؛ فهؤلاء كزبد البحر، ولكن المشكلة هي أن يتوقف مشروع ترميم كهذا لما يقرب من السنوات الثلاث؛ ولأسباب غير واضحة أو منطقية! هذا جانب صغير من قصة الهرم المدرج بين العلم والجهل، وللحديث بقية إن شاء الله.