فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

لماذا غاب سؤال العلمنة عن ثورات العرب؟!

من الضروري الدخول على الأحداث من خلال مشارط الأسئلة والمحاسبة، ذلك أن خطط التصحيح ودعوات النضال وصراخ الاعتراض لم يكن ناضجا بما يكفي خلال العقود، بل والقرون الماضية؛ إذ تغيب رهانات أساسية وعلى رأسها الرهان الفلسفي في التغيير من خلال طرح المفاهيم والبرامج المدنية الواضحة التي تؤسس لمعنى دنيوي محض يخدم الإنسان ولا يظلمه، جميع المناضلين العرب الذين يعلوا صوتهم لا يجرؤون على طرح سؤال العلمنة أو الدين، ولا يناقش المعنى الفلسفي والفحوى الداخلي لمفهوم «الديمقراطية»، بل يغفو على الأحلام، وقد تحالف مع الأصوليين بغية ضرب النظام السياسي كما تفعل تيارات القوميين واليسار وجموع الناشطين «الليبراليين»، يخافون من سؤال العلمنة وتعالقه وتحالفه مع سؤال الديمقراطية، بل أعجبوا بنماذج الحكم الإخواني بمصر وتونس وليبيا وغيرها من دول المنطقة.
هنا سأعيد السؤال الذي طرحته حول الديمقراطية والعلمنة والدور الفلسفي!
لم تكن الفلسفة مسؤولة بشكل أبدي عن المفاهيم التي تنتجها، ولا عن المسارات التي تحفرها، إنها تفجّر الصخر ثم تترك للناس حرية تشكيله، وتنصب المثال وتدع صورة نقشه للعابرين، حتى المفاهيم التي تدخلت الفلسفة في إنضاجها مثل «الديمقراطية» لا تزال تحرّك أسئلتها القلقة، لأن المفهوم يتحرّك بتمرد على أي قالب.
الديمقراطية بوصفها الأداة الأكثر تداولا من بين أدوات الحكم في التاريخ، عاشت أسئلة فلسفية عصيبة، غير أن الفلسفة لم تعن بالديمقراطية بوصفها جهازا منتجا للأصوات بقدر ما اعتنت بها بوصفها فضاء تتحرك داخله المفاهيم الفلسفية المتصلة بالبشر، اعتنت بالديمقراطية المساواتية أكثر من ارتباطها بتحليلات الحكومة التمثيلية.
تعبّر الديمقراطية من خلال تماسّها بالفرد عن حمايةٍ له من زحفٍ غير مبرر للسلطة، تكون السلطة ضمن نطاق إرادته، وتكون السلطة ضمن أطرٍ قانونية وتنظيمية نبعت من «الروح الاجتماعية»، وللديمقراطية في أميركا - على سبيل المثال - معنيان: «ففي معناها الأضيق والأدنى، تشير الديمقراطية إلى نظام حكمٍ تكون فيه السلطة بيد مسؤولين جرى انتخابهم بحريّة، سأسمّي هذا المعنى للديمقراطية الدستورية، أما في معناها الأوسع، فالديمقراطية تشير إلى مثالٍ اجتماعي؛ أي المساواة في الفرص؛ أي المساواتيّة» هكذا يشير الفيلسوف الأميركي ريتشارد رورتي.
ذلك أن «المساواتية» جاءت بعد الديمقراطية؛ إذ حوّل الفلاسفة في القرن الثامن عشر من أمثال توماس جيفرسون الأميركي، وكانط الألماني، اهتماماتهم إلى طرح أسئلة موجعة للتطبيق الآلي الأداتي الجائر للديمقراطية، جيفرسون - الفيلسوف اليساري وهو سياسي - قال: «إننا نتبنى هذه الحقائق كأشياء لها بداهتها الذاتية وهي أن جميع الناس خلقوا متساوين، وأنهم وهبوا من خالقهم حقوقاً معينة غير قابلةٍ للتصرف، من بينها الحياة، والحرية، والسعي لتحقيق السعادة»، ثم يتّفق مع كانط بأن العقل وحده القادر على تقديم ترشيد أخلاقي وسياسي».
مكّنت الديمقراطية الأجواء للأميركيين أن يطرحوا أسئلة الإنسان، بدءاً من التمييز ضد المرأة، وصولاً إلى حقوق السود، يكتب رورتي: «لقد استغرقت نحو 100 سنة، وحرباً أهلية ضخمة ومكلفة، قبل أن يُعطي الأميركيون السود الحق في عدم استعبادهم، واستغرق الأمر 100 سنةٍ أخرى، قبل أن يبدأ التعامل مع الأميركيين السود بصفتهم مواطنين كاملي العضوية، يتمتعون بالفرص نفسها التي يتمتع بها البيض. إن جيفرسون وكانط سيذهلان من التغييرات التي حدثت في الديمقراطيات الغربية في الـ200 سنة الماضية، لأنهما لم يفكرا في التعامل المتساوي بين السود والبيض، أو في حق الاقتراع للنساء كشيء يمكن استنباطه من المبادئ الفلسفية التي أعلنا عنها».
إن الديمقراطية تمنح الفضاء الحر الحيوي الضروري الذي تتشكل داخله المبادئ والمفاهيم وتتحول، يطهّر المجتمع صروح ديمقراطيته باستمرار من خلال الأسئلة التي تطرح علمياً وفلسفياً وقانونياً، تكون الحرية الاجتماعية هي التي تجدد الديمقراطية، ولا تكون الديمقراطية مجرّد أداةٍ مانحةٍ للحرية. من هنا يفاجأ العالم بالتجدد الذي يكوّنه المجتمع الحر عن نفسه، لم تعد الموروثات التاريخية لدى الأميركيين مؤثرةً في صياغة الرأي الذي يريدونه عن مرشّحيهم، احتاج السود في أميركا 200 سنة حتى يتحوّلوا من مقموعين ومهمّشين إلى أن يكون رئيس الولايات المتحدة منهم، هذه هي فعالية الديمقراطية التي تطهّرها الأسئلة دائماً، وأقسى الأسئلة تلك الآتية من صميم الفلسفات.
وبقدرِ ما تؤثر الفلسفة في البشر، فإنها تقودهم إلى التأثير في النمط الديمقراطي المعيش، وحين دعا هابرماس إلى «التواصل العمومي» كان يعلم أن آثار التواصل ستنعكس، من خلال تأميم الحداثة على المجتمعات الغائبة عن التأثير على العالم بسبب انكماشها الثقافي التاريخي، وذروة «الحوار العمومي» الذي نادى به هابرماس تجلّت في حواراته مع الشرق؛ إذ ألقى محاضراتٍ في مصر وطهران وفي حواراته مع رجال دين. بالحوار العمومي يمكن التأثير الحيوي على أسسٍ طال ثباتها، فيختبرها بعواتي رياحه، ويطرقها بمعاول أسئلته. ستبقى أسئلة الديمقراطية ما بقيت الفلسفة، وسيبقى تجديدها ما بقي المجتمع، وبالحرية تنتقل الديمقراطيات من أشكالها التمثيلية إلى ديمقراطية مساواتيّة. الديمقراطية في حالةِ استفزازٍ دائمةٍ تصنعها أسئلة الفلسفة.
ما لم نجرؤ على نقاش الأسئلة الجوهرية وعلاقتها بالتغير والتحوّل نحو مستقبلٍ آخر، فإننا نكرر نماذجنا من دون أن نشعر، والتغيير من جنس النموذج المتخيل، ولا أرى أي نموذجٍ استطاع أن يخرج من تيه الظلام وثقافة الاستئصال وأحاديث الموت، لهذا غاب سؤال العلمنة الضروري لأي نقاش حول الديمقراطية والإصلاح.