سوسن الشاعر
إعلامية بحرينية تكتب في بعض الصحف البحرينية منها «الوطن» و«بوابة العين الإخبارية». عضو في مجلس أمناء «جائزة الصحافة العربية». كانت مقدمة لبعض البرامج التليفزيونية. خريجة جامعة بيروت العربية.
TT

هل تأكدت الدولة أن مساجدنا لله وحده؟

أصدرت البحرين مراسيم ملكية لتنظيم عملية جمع الأموال للأغراض الدينية (زكاة أو خمس) لأول مرة في تاريخ البحرين، تزامنا مع قرب انعقاد المؤتمر الدولي لمكافحة تمويل الإرهاب المزمع عقده في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل على أراضيها، في خطوة عدّها المراقبون محاولة لاستعادة دور الدولة المفقود في المساجد.
فمنذ عقود ودور وزارة الأوقاف بصفتها جهة رسمية معنية بالشؤون الدينية ومنها «المساجد»، قد اقتصر على ترميم القديم من المساجد، أو صيانتها، أو بناء الجديد منها، وإقامة الاحتفالات السنوية للمناسبات الدينية، فحسب.. أما مسؤولية الإمامة في المساجد؛ تعيينا ومراقبة وتوجيها، فقد تركت دون ضوابط ودون توجيه سلطة مطلقة وتقديرية لإمام المسجد، رغم أن الإمام هو الشخص الذي له الكلمة الفصل في كل ما يحدث هناك.. فبالإضافة إلى عمله الأساسي وهو إمامة الصلاة والخطبة في الجامع، له صلاحيات تتيح له جمع الأموال لأغراض دينية، والتدريس، والدعوة، وكل ما يتعلق بنشر الأفكار، وحين انسحبت الدولة طواعية من هذه المواقع قفزت عليها الجماعات الدينية لتتحول المنابر الدينية إلى ميادين لصراع الجماعات الدينية فيما بينها. وحين تمدد نفوذ تلك الجماعات سياسيا، تحولت تلك المساجد إلى مقار سياسية تدار منها الحملات الانتخابية، وتدار من على منابرها الصراعات الحزبية، فتحولت إلى مراكز لإدارة شؤون الجماعة، ومراكز لجمع الأموال، ومراكز لتجنيد الشباب.. جرى ذلك تحت غطاء الدروس الدينية وتحفيظ القرآن والدعوة لأنشطة خارجية كالمخيمات الصيفية، حتى العنصر النسائي لعب دورا ملحوظا في نشر الفكر الحزبي للجماعات الدينية وفي جمع الأموال.
في نهاية الثمانينات حين حدث الانشطار في جماعة «الإخوان» وخرجت منها بعض الجماعات المتشددة، بلغ الصراع بينها؛ خاصة بين «الإخوان» و«السلف»، ذروته على الاستحواذ على المساجد حتى طفحت الشكاوى والتظلمات بعضها على بعض في الصحف، لكنهما وللمفارقة تحالفا ضد الأئمة من خريجي الأزهر الشريف، فأقصي العديد من الأزهريين من الإمامة. ولم يكتف الاثنان بذلك؛ بل أديرت حملات للنيل من تقوى وإيمان وفهم وفقه الخريج الأزهري، وناله من الطعن في إيمانه ما ناله، ثم دارت حرب ضروس على الشيوخ ذوي الميول «الصوفية» فأقصوا لمساجد صغيره وبعيدة عن المراكز السكانية ذات الثقل السكاني.
ولم تكن المساجد الشيعية بعيدة عن هذا الصراع في ما بين جماعاتها.
والجدير بالذكر أن للشيعة في مملكة البحرين مساجدهم ومآتمهم وأوقافهم، ويرفع أذانهم بوقت فارق عن الأذان السني، وصلاتهم الجامعة لها شروطها واستحقاقاتها المختلفة، والمختلفة حتى عن الصلاة الرمضانية (التراويح والقيام) والأهم أن معظم مراجع الجماعات الشيعية غير بحرينية، ورجل الدين البحريني مجرد «وكيل» عن تلك المراجع يجمع لها الخمس، ويرسله لها خارج البحرين بلا رقابة وبلا علم أو دور للدولة. ولصلاة الجماعة عند الشيعة شروط واستحقاقات لا يمنح صكها إلا من قبل المرجعية العليا خارج البحرين. وينعكس صراع المراجع الشيعية غير البحرينية على الجماعات البحرينية - وأكثرها شهرة الصراع بين المدرسة النجفية والمدرسة الكربلائية - حتى وصلت القطيعة بين الجماعات الشيعية إلى حد التقاتل للاستحواذ على المنابر، وبالتالي الاستحواذ على الوكالة، إلى درجة تغاضى فيها الوكلاء عن الملاحقات الأمنية من الدولة التي تقع لبعض شيوخ الدين الشيعة، نكاية بهم وحتى يخلو موقع، وتستحوذ عليه الجماعة الثانية.
فحين اكتشفت الدولة في الثمانينات محاولة الانقلاب الفاشلة التي كان يدبرها هادي المدرسي (شيرازي وهو من كان وراء أحداث البحرين الأخيرة وأدارها من قناة «أهل البيت» العراقية) وفر هاربا من البحرين، لم يعترض الشيخ عيسى قاسم زعيم جماعة «الولي الفقيه» والأب الروحي لـ«جمعية الوفاق» الشيعية فيما بعد، بل سكت.. لأن الخلاف في معركة جباية الخمس كان على أشده مع هادي المدرسي، وبهروب المدرسي خارج البحرين سيخلو مقعد الوكالة لعيسى قاسم عن الإمام الخميني، وهذا ما حدث، حيث أصبح هو وكيلا للخميني، ومن بعده لخامنئي ينوب عنه في جمع الخمس وفي الإمامة في الصلاة، وهو في خلاف دائم مع مرجعيات «الإخباريين (فصيل شيعي آخر)» ويمثلهم الشيخ المدني والشيخ العصفور.
وحين نشطت الجماعة الأصولية برعاية من الخميني، التي اتخذت من نظرية ولاية الفقيه عقيدة لها بشقيها (الشيرازي وخط الإمام) تم التنكيل بـ«الإخباريين» من الشيعة الذين رفضوا ولاية الفقيه ولم يقبلوها، ووصل الأمر إلى الاقتتال والضرب والطرد، حتى انزوت جماعة سليمان المدني والعصفور (إخباريين) في بعض القرى، ولهم بعض المساجد هناك.
لم يقتصر أثر ذلك الصراع على الانشقاقات والتناحر بين الجماعات الإسلامية، بل امتدت آثار هذا الصراع حين دشنت البحرين مشروعها الإصلاحي، ودعت الجميع إلى الانخراط في ممارسة حقوقهم السياسية من ترشيح وانتخاب للسلطتين التشريعية والبلدية، فتحولت المساجد إلى مواقع للصراع بين «الجماعات» متجاوزة الصراع على الخلافات العقائدية إلى الخلافات الحزبية والسياسية؛ مسجد شيعي في منطقة ذات كثافة سكانية شيعية يعني فوزا لمرجعية في هذه المنطقة.. يعني نفوذا ماليا وسياسيا، ويعني كذلك استحواذا على الأصوات الانتخابية، ويعني كتلا بشرية تابعة للأجندة السياسية لتلك المرجعيات.
والمساجد السنية لم تكن بعيدة عن الصراعات الحزبية السياسية، فمسجد سني جديد بمنطقة ذات كثافة سكانية سنية يعني أصواتا انتخابية.. يعني كتلا شبابية تستغل لمشاريع جماعات حزبية سنية كـ«الإخوان» أو السلف أو متشددين لهم أجندة ومشاريع تقع خارج حدود المملكة.
اليوم تجاوز دور «المساجد» المقامة على أرض البحرين إدارة الصراع داخل حدود مملكة البحرين، فمن مساجدنا جرى ابتعاث ما يقارب 100 سني للقتال مع تنظيمات مسلحة مثل «داعش» وهذا أول رقم رسمي من مسؤول بحريني ذكره وزير الخارجية البحريني، ومن مساجدنا أرسل المئات من الشباب الشيعة للتدريب على حمل السلاح والانخراط في معسكرات التدريب وفي القتال داخل وخارج البحرين، منخرطين في تنظيمات إرهابية شيعية مسلحة نشطت في البحرين باستخدام السيارات المفخخات والأسلحة النارية والمواد متفجرة والمولوتوف والقاذفات ذات الصناعة المحلية التي استخدمت ضد رجال الأمن، حيث سقط في البحرين أكثر 2800 مصاب بين رجال الأمن مات منهم 14 شرطيا، وقتل بعض من هؤلاء الشباب في تلك المصادمات وبعضهم يقبع في السجن الآن.
ومن مساجدنا الشيعية يقاتل بعض شباب الشيعة في صفوف الميليشيات الشيعية في سوريا، ومات منهم 8 عام 2013، حيث أكد ذلك مسؤول «حركة النجباء» هاشم النجيب في موقعه: «إننا نزف اليوم 23 شهيدا (9 سعوديين و8 بحرينيين و6 كويتيين) من المقاتلين المتطوعين من أهل البيت من السعودية والبحرين والكويت الذين استشهدوا في الدفاع عن مرقد السيدة ‏العقيلة زينب، بسوريا ضد الحركة الإرهابية التي تريد النيل من أهل البيت وأتباعهم».
‏ يحق لنا الآن بعد أن تشكل تحالف دولي من أجل ردع «خريجي» العديد من «مساجدنا» وبعد أن عانينا نحن المجتمعات المسلمة العربية من إرهابهم، أن نسأل: هل هناك رؤية استراتيجية شاملة لدولنا تعيد صياغة دور «المساجد» لتكون ترسا مساندا ومساعدا في تنمية المجتمع وتدور مع بقية المؤسسات في إشاعة الأمن والاستقرار والتعايش، ودعم اتفاقياتنا الأمنية وسياستنا الخارجية، حتى لا تكون مساجدنا خارج نطاق التغطية وتعمل باتجاه يعاكس الرؤية الوطنية، أم إن تلك الإجراءات التي نراها الآن في معظم الدول العربية لزوم ما يلزم الآن فقط؟!