محمد بن أحمد الشدي
كاتب سعودي
TT

السعودية وفلسطين في وثائق الغرب!

لقد سارت في السماء العربية نجوم وأفلاك كثيرة وسالت دماء ودموع غزيرة وقضية فلسطين تراوح مكانها - ومعركة غزة قبل أيام لن تكون الأخيرة! كل هذا وهذه القضية العربية واقفة حيث هي والريح تلعب بها وبشعلة ضوئها المتبقية بل إن الأشد هي تلك الخلافات التي تمزقها ليست خلافات بين العرب من أجلها فحسب، بل بين أهل فلسطين أنفسهم الذين تتقاذفهم وقضيتهم مؤامرات الأطماع والدول والأحزاب والمنظمات التي تبحث عن مواطئ أقدام ونفوذ وعز مفقود يبحثون عنه، وعبث إيران وعملائها الصغار في الشرق العربي مثال على هذا التوجه والمزايدة على هذه القضية!
وقبل فترة عقد في الرياض ندوة علمية مدعمة بالدراسات والبحوث بعنوان (المملكة العربية السعودية وفلسطين علاقة التاريخ والمصير). وبحضور عدد من الهيئات والمنظمات الدولية العربية والأجنبية إضافة إلى نخبة من العلماء والمؤرخين والباحثين والمفكرين والمثقفين والدبلوماسيين والإعلاميين وغيرهم ممن تهمهم هذه القضية العربية الكبرى.
ولا شك في أن هؤلاء الفضلاء الذين حضروا هذه الندوة بجلساتها الـ7 في قاعة الملك فيصل للمؤتمرات في الرياض يدركون من خلال الوثائق التاريخية السرية، والعلنية ومن خلال ما تنشره مراكز المعلومات والمصادر الدبلوماسية والصحافية مدى العلاقة الوثيقة بين المملكة وفلسطين.
إن من يطلع على الوثائق التاريخية السرية التي عمرها 35 عاما والتي أفرجت عنها وزارتا الخارجية الأميركية والبريطانية مؤخرا وأخرجتها من الظلام إلى ضوء الشمس، أو من يطلع كذلك على الوثائق التي نشرت في كتاب المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل.. والذي أرسله لي في حينه الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري السياسي المحنك - رحمه الله - فسوف يثمن المواقف الصلبة للملك عبد العزيز وأبنائه الذين ساروا ويسيرون على سياسته ونهجه في نصرة القضية الفلسطينية بكل الوسائل الممكنة وبذل كل غال ونفيس من أجل تحريرها من قبضة العدو الصهيوني المدعوم من بعض الدول الاستعمارية الظالمة في الماضي، واليوم من بعض الدويلات التي تبحث لها عن دور ولو برفقة الشيطان!
أما بالنسبة للملك عبد العزيز فلا أحد ينكر موقفه التاريخي الصارم والشجاع الذي جابه به الرئيس الأميركي روزفلت عندما التقى به عام 1946 على الطراد أكوتشي في (البحيرات المرة) في مصر فعندما طلب منه روزفلت الموافقة أولا وإقناع بقية العرب ثانيا بفكرة السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين وإنشاء وطن قومي لهم فيها تنفيذا لوعد بلفور رفض الملك عبد العزيز هذا الطلب رفضا قاطعا وقال له: إن اليهود الصهاينة لا يمكن أن يتعايشوا مع العرب في فلسطين ومن الأفضل لأميركا البحث لهم عن وطن آخر غير أرض فلسطين (هذا كلام لم يسبقه إليه أحد)!
وأما مواجهة الملك عبد العزيز مع تشرشل صديق الصهيونية الحميم فتمثلها المذكرة الوثيقة رقم 2245-2-1.. ف 890 بتاريخ 22 فبراير (شباط) 1945 والتي أرسلها الوزير المفوض لدى السعودية (ويليام إيدي) إلى وزير الخارجية، قائلا:
سيدي.. لي الشرف أن أحيلكم إلى برقية المفوضية رقم 89 بتاريخ 21 فبراير وأن أقدم لكم تفاصيل ما سمعت من الملك عبد العزيز. إن الملك دعاني أمس لكي أعود إليه بعد الغداء للقاء لا يحضره إلا هو وأنا، بل إنه لا يريد أن يكون حارسه الخاص موجودا. إن الملك قال لي إنه يريد أن تعرف حكومتي تفاصيل ما جرى بينه وبين المستر تشرشل عندما التقى الاثنان في الفيوم في مصر بعد اجتماع الملك مع الرئيس روزفلت في البحيرات المرة.. وكانت رواية الملك للقاء كما يلي وبالحرف تقريبا أن تشرشل بدأ يتحدث معي مظهرا ثقته الكبيرة في نفسه وبدا وكأنه يلوح لي بعصا غليظة قائلا لي: إن إنجلترا أيدتني وساعدتني ماليا عشرين سنة كما أنها ساعدت على استقرار ملكي.
وأوقفت كل الطامعين فيه وبما أن بريطانيا ساعدتني في الأيام الصعبة فإنها الآن تطلب مني أن أساعدها في موضوع فلسطين وترى أن أثبت قدرتي كزعيم عربي قوي وأمنع عناصر التهييج العربي من الإثارة ضد الخطط الصهيونية في فلسطين وقال تشرشل لي إن علي أن أقود المعتدلين من العرب إلى حل وسط مع الصهيونية وهو يتوقع مني أن أساعد على تهيئة الرأي العام العربي لقبول تنازلات لليهود.
جاوبت تشرشل وقلت له: إنني لم أنكر إطلاقا صداقتي لبريطانيا وعرفاني لها وكصديق فإني قدمت ما أستطيع عندما كان الحلفاء يحاربون عدوهم وقلت له إن ما يقترحه علي ليس مساعدة لإنجلترا أو للحلفاء ولكنه بالنسبة لي عمل من أعمال الخيانة لرسول الله ولكل المسلمين المؤمنين ولو أني أقدمت عليه لأضعت شرفي ودمرت روحي وأنا لا أوافق على تنازل للصهيونيين فضلا عن أن أقنع غيري. وحتى إذا قبلت أن أفعل ذلك فلن يكون ما أفعله مساعدة لبريطانيا وإنما سوف يكون عبئا عليها لأن تأييد المطامع الصهيونية من جانب أي جهة سوف يؤدي إلى إراقة الدماء وسوف ينشر الفوضى في العالم العربي وهذا لن يكون في صالح بريطانيا.
وقال لي الملك إنه عند هذه النقطة بدا له أن تشرشل أنزل عصاه الغليظة من الهواء فانتهز هو الفرصة بدوره ورجاه في تأكيدات يعطيها له بوقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين ورفض تشرشل أن يعد بشيء. (إمضاء/ ويليام إيدي).
إن هذه الوثيقة لوحدها كافية لتسجيل موقف الملك عبد العزيز الصارم لرغبات تشرشل على أنه من ناحية أخرى يجب تسجيل موقف الملك عبد العزيز العاقل ونصيحته للزعماء العرب بعدم إدخال جيوشهم إلى فلسطين ولكن عليهم دعم الفلسطينيين بالمال والسلاح وهم كفيلون بمواجهة اليهود والتغلب عليهم، وفي الوقت ذاته سمح الملك عبد العزيز للمتطوعين السعوديين ونعرف منهم فهد المبارك وناصر الأسمري والطاسان بالذهاب إلى فلسطين لمقاومة الهجمة الصهيونية على أرض وأهل فلسطين.
وعندما انطلقت شرارة الثورة الفلسطينية في مطلع عام 1965 كانت السعودية بقيادة الملك فيصل في مقدمة الدول العربية والإسلامية التي دعمت الكفاح المسلح من أجل تحرير أرض فلسطين التي احتلت عام 1948 وقد حضر إلى المملكة لأول مرة الرئيس ياسر عرفات واستقبله الملك فيصل وشجعه ودعمه.
وقد زاد الدعم السعودي لمنظمة التحرير الفلسطينية على الصعيدين الرسمي والشعبي بعد هزيمة العرب في الخامس من يونيو (حزيران) عام 1967 ولا أحد ينسى موقف المملكة ممثلة بالملك فيصل عندما قام وعانق الرئيس جمال عبد الناصر في مؤتمر الخرطوم حيث تم طي ملف حرب اليمن كما تم دعم مصر بالمال وبالسلاح من أجل إزالة آثار العدوان الإسرائيلي والعمل الجاد لتحرير فلسطين بكاملها من المغتصبين الصهاينة والعمل على دعم العمل العربي.
وفي عام 1968 عندما وقعت معركة الكرامة قدمت المملكة المال والسلاح للفدائيين الفلسطينيين وللجيش الأردني وأرسلت جزءا من جيشها لدعم العمل المسلح.
وبسبب الانحياز الأميركي الصارخ إلى إسرائيل التي رفضت الانسحاب من الضفة الغربية توترت العلاقة بين المملكة وأميركا حتى وصلت إلى أقصى درجة من السوء وكل ذلك موثق في الرسائل المتبادلة بين الملك فيصل والرئيسين الأميركيين جونسون ونيكسون.
ويكفي أن نشير إلى مقتطفات قصيرة مما ورد في رسائل الملك فيصل إلى الولايات المتحدة.
قال الملك فيصل في إحدى رسائله إلى نيكسون:
إسرائيل دولة غريبة في تاريخ البشرية وهم لا يملكون أي حق في القدس وأنا مستعد للاستشهاد في سبيل القدس. ورد الملك فيصل على الرئيس جونسون بواسطة السفير الأميركي في المملكة قائلا: إن على الولايات المتحدة أن تعرف أن السعوديين ليسوا ضد اليهود ولكنهم ضد الصهاينة وأن عجرفة الصهاينة تجعل كل العالم يكرههم وأن العرب سوف ينتصرون في النهاية وأن اليهود الصهاينة ليسوا أقوى من الصليبيين ولا أكثر منهم عددا. وقال الملك فيصل أيضا في رسالة أخرى نقلت شفويا بواسطة السفير الأميركي إلى الرئيس جونسون ووردت في وثائق وزارة الخارجية الأميركية: إن الشيء الوحيد المقدس بالنسبة لليهود هو الصخرة التي وقف عليها النبي موسى - عليه السلام - في صحراء سيناء وهي الآن في نيويورك ولهذا على اليهود أن يحجوا إلى نيويورك.
وفي عام 1973 في حرب أكتوبر أو حرب رمضان كان للملك فيصل اليد الطولى في النصر الذي أحرزته مصر الشقيقة على إسرائيل حيث قال الرئيس السادات إن الملك فيصل هو (بطل العبور) نظرا للقرار الشجاع الذي اتخذه الملك فيصل بقطع البترول عن أميركا والغرب وتقديم المال والسلاح وكل ذلك كان يصب في النهاية لصالح فلسطين والفلسطينيين والعرب.
ولقد سار الملك خالد يرحمه الله على نفس الخط في دعم ومناصرة القضية الفلسطينية وبكى من أجلها عندما احتلت إسرائيل بيروت عام 1982، وكذلك الملك فهد بن عبد العزيز (رحمه الله) وقف بقوة مع استرداد الفلسطينيين لحقوقهم الشرعية والكاملة. ولقد قال لي في حديث صحافي ليس أمام العرب إلا الحرب!!
ولعل ما يكرس مواقف المملكة الداعمة والدائمة للفلسطينيين والشعب الفلسطيني إعلان خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في مؤتمر القمة العربي عام 2002 الذي عقد في لبنان، وقدم فيه مشروع العرب لحل هذه المشكلة! وجمع الإخوة الفلسطينيين في مكة لإصلاح ذات البين. اجتماع صلح مكة حضره الرئيس الفلسطيني محمود عباس الرجل المثقف والعاقل. وإذا أراد العالم وفي مقدمته دوله الكبرى والنافذة أن تنطفئ نيران الشرق الأوسط، وأن تختفي «القاعدة» و«داعش» و«النصرة» وغيرها فما عليهم إلا أن يسمحوا أو يقروا ويدعموا قيام دولة للفلسطينيين على أرضهم!
* كاتب سعودي