أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

أميركا وتصحيح استراتيجيتها الخاطئة في العراق

قال السعوديون لأصدقائهم في واشنطن بعد سقوط نظام صدام حسين إن السياسة الأميركية في العراق ستؤول إلى طريق مسدود وعواقب وخيمة لا حصر لها على كل المنطقة؛ سيكون لإيران موطئ قدم لن تزاح بسهولة، وسيتفكك النسيج العراقي مع التجاهل المتعمد للمكون السني. كان جورج بوش الابن قد أخذ لسعة من السنة بعد أحداث سبتمبر (أيلول)، وتكونت قناعة لدى إدارته بأن الإسلام السني المتطرف آخذ في التمدد، مما يشكل خطرا حتميا على الأمن القومي الأميركي. اختلف الأصدقاء، فانسحبت الرياض من القضية العراقية تاركة الساحة عبئا ثقيلا على واشنطن.
ما حصل بعد ذلك، وحتى قبل شهر من الآن، هو استماتة أميركية لإنعاش استراتيجيتها الفاشلة حيال العملية السياسية في العراق التي أسست لها مع أول انتخابات في 2005، لكن المشهد العراقي كان لا يحتمل التنظير حول قيم الديمقراطية ومبادئ العالم الحر، فاتخذت أميركا موقفا شجاعا وواقعيا بإزاحتها لرئيس الوزراء نوري المالكي بعد أن أثبت أنه ليس عدوا فقط للعراقيين، بل سبب في تهديد الأمن الإقليمي بسياساته التعسفية وتواطئه مع النظام الإيراني ضد مصالح دول المنطقة.
في لقائه مع شبكة «سي إن إن»، وبعد أن اجتمع برئيس الوزراء العراقي حيدر عبادي، قال جون كيري، وزير الخارجية الأميركي، إن العراق بلد متعدد الطوائف والأعراق، وبلد كهذا لا يمكن أن تحكمه طائفة واحدة. وأشاد بتحركات عبادي السياسية وأنه بدأ في عمل خطوات إيجابية في تعزيز الشراكة السياسية والاجتماعية، حتى على مستوى علاقات العراق الخارجية، في إشارة إلى الرسالة التي بعث بها إلى العاهل السعودي يطلب فيها فتح صفحة جديدة مع العراق.
إذن نحن نتحدث عن تحول كبير في الموقف الأميركي، واعتراف ضمني بصحة وجهة النظر السعودية.
والعلة لم تكن في الظهور المفاجئ لـ«داعش»، لأن العراق كان في طريقه إلى الهاوية بـ«داعش» أو من دونه، المشكلة في إدارة مثلت وجه العملة الآخر لصدام حسين، في جبروته وأحادية نظرته وتسلطه، وتطويع مقدرات بلاده لتكون طوع أهوائه. الفارق أن صدام حسين أنفق في سبيل حربه مع إيران، والمالكي قدم المال لتمكين الإيرانيين في العراق وسوريا.
الأميركيون باتوا على قناعة بأن السنة الذين يشكلون غالبية المسلمين في العالم هم بالكثافة العددية التي تجعلهم متنوعي الفكر والسلوك، وليس من قبيل الغرابة أن تجد منهم الضال أو المتطرف مثلما فيهم المتمدن المنفتح. والحكم على هذه الأغلبية بأنها ليست كفؤة للدعم السياسي، أو أنها أهل للاشتباه، فيه جور عظيم وسذاجة سياسية. هذا ما جعل واشنطن تضع يدها في يد الرياض لضرب الإرهاب.
ولنقرأ الواقع على الساحة اليوم.. التنظيمات التي تدعي أنها سنية سلفية، كـ«داعش» أو جبهة النصرة، حينما تمكنت في سوريا توعدت علنا بأن هدفها التالي هو جزيرة العرب، أي السعودية، الهدف التاريخي لتنظيم القاعدة. هذا يدحض الادعاءات بأن السعودية تدعم الإرهاب، والتي روّج لها الصقور اليمينيون بعد أحداث سبتمبر، ولا تزال التهمة سارية ولكن هذه المرة عربيا بفعل بعض نزلاء موقع «تويتر»، في حين أن التنظيمات المسلحة الشيعية، والموصومة بالإرهاب كـ«حزب الله» و«عصائب أهل الحق»، وحتى الحوثيين في اليمن، لم تتوعد إيران، ولم تستدر عليها وتهدد بإسقاط النظام فيها، ببساطة لأن هذه التنظيمات تدين بالولاء والطاعة للولي الفقيه في طهران، وهي جزء لا يتجزأ من سلاحه الدولي.
ملحوظ أيضا ظهور تغير آخر على السياسة الأميركية في المنطقة؛ فواشنطن تنحت عن قيادة الصفوف، وجعلت القيادة العسكرية مشتركة.. لم تتصدر المجتمع الدولي وتتحمل تبعات الضربات على التنظيمات المتطرفة وحدها كما فعلت في العراق وأفغانستان، ولا حتى بطريق غير مباشر من خلال دفعها للناتو للتدخل كما حصل في كوسوفو. واشنطن أرادته عملا دوليا، فتقدمت دول من عادتها أن تفكر ألف مرة قبل تحريك عجلة طائرة واحدة من قواعدها، كالسعودية والإمارات.
التحالف الدولي لقمع الإرهابيين هو خطوة أولية في خطة المكافحة. وجود أميركا أو غيابها لن يغير من واقع أننا نحن أول وأكثر المتضررين من الإرهاب لأنه يسكن بيننا، إنما يلزم هذا التحالف دعم سياسي ولوجيستي للمعارضة الصالحة في سوريا، أي الجيش الحر، وأقول معارضة صالحة لأن هناك معارضة ضالة تتمثل في «داعش» وجبهة النصرة، والأخيرة يتم التسويق لها مؤخرا في مواقع التواصل الاجتماعي وفي بعض تصريحات السياسيين على أنها مقاومة إسلامية معتدلة، متناسين أنها ابنة شرعية لتنظيم القاعدة، وأنها تدار بأمر قائد التنظيم أيمن الظواهري، وجرائمها ضد الشعب السوري ووحشيتها ضد الجيش الحر لا يمكن حذفها من قائمة الإرهاب السوداء. كان من المستغرب نشوء هذا الموقف لصالح جبهة النصرة في هذا التوقيت، إنما تبين أن من ينافحون عن هذا التنظيم هم الذين خرجوا من مطبخ 2011 وهم جياع، أي «الإخوان المسلمين»، وهم من يتهمون التحالف الدولي بأنه ينتهك حقوق الإنسان ويقتل أطفال سوريا، ويسمون قتلى جبهة النصرة بالشهداء!
جبهة النصرة هي «داعش» باسم آخر، كلهم فروخ لتنظيم القاعدة. من يدعي أن منهم الطاهر والمعتدل فهو مثلهم. ولو كان لـ«الإخوان المسلمين» قدر من الحنكة السياسية لتبنوا الموقف الدولي لتحسين صورتهم المشوهة، إنما من الواضح أن «الإخوان»، خاصة في دول الخليج، يأملون أن إرهاب جبهة النصرة سيهز الأنظمة الحاكمة في الخليج، وهو الهدف الذي عجزوا عنه في السنوات الثلاث الأخيرة. بودهم لو يصرحون بدعمهم لـ«داعش»، فهم يتمنون سرا أن يغزونا، لكنهم يكتمون أمانيهم معتبرين ذلك من التقية المحمودة. يريدون أن يضربوا بسيف الإرهاب استقرار الخليج، بعد أن تم التضييق عليهم وطردهم وسجنهم، إنما التماهي مع الإرهابيين لعب بالنار، حتى إن أي دولة في المنطقة ليست مهددة بالإرهاب هي موضع شبهة. لأن الإرهابيين مشروعهم توسعي، لن يقدموا استثناءات لأحد بلا بمقابل.

[email protected]