سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

هل حضرت لكي تغيب؟

عندما انهار الاتحاد السوفياتي ودخلت آلات التصوير للمرة الأولى إلى مدنه، رحت أتأمل مشاهد الطرقات السيئة والبيوت المحزنة. وعندما دخلت الكاميرات العراق أذهلتنا مناظر القلة في أغنى وأخصب بلدان العرب. وعندما نقلت المشاهد التلفزيونية من الجماهيرية العظمى وبلد «النهر العظيم»، تسنى لنا رؤية البلد الذي دعا القائد أهله للهجرة إلى السودان لأن فرص العمل غير متوافرة فيه.
الآن تُعرض علينا صور الميادين الجديدة من الرقة إلى قرى الكرد في شمال العراق، مرورا بجمهورية الحوثيين في صنعاء. ماذا تلاحظ؟ شخصيا، لاحظت، مع الاعتذار، أن تلك الديار لم تمر بها الدولة. لا بالجرّارات ولا بعواميد الكهرباء ولا بالمدارس ولا بالمشاريع ولا بالمشاركة ولا بالرعاية ولا حتى بالتحية.
لعله السفير صلاح ستيتية يبالغ عندما يكتب في مذكراته (بالفرنسية) أن المواطن في بلاد الطغيان ليس أكثر من شيء يداس. لعله. ولعله أيضا لا يبالغ. فمن يرى هذه الجرود القاحلة كل يوم والأكواخ المتداعية وآلاف الهاربين من مكان بائس إلى ملجأ أكثر بؤسا، يعرف أن العجرفة لا يمكن أن تؤدّي إلى صورة أخرى للحياة. لقد دُفع الإنسان العربي إلى الشوارع يهتف لحاكم لا يرى فيه أكثر من ببغاء مكرهة، تمجد اللاشيء، وتهتف للفقر والبطالة والإهمال والحكومات التي لا تبني طريقا ولا توزّع دواء.
لاحظوا المشاهد التي ترونها كل مساء عن حصيلة النهار العربي. قوافل من البشر لا وطن لها ولا مرجع ولا أمل، تسير في أرض يباب قاحلة. أراض لم يكن فيها سوى الرعب والصمت والقحط. هل العواصم أفضل؟ سكان المقابر في القاهرة وأحياء الصفيح في دمشق وبغداد؟ على ماذا يتقاتل هؤلاء السادة؟ هل لاحظت جنابك أمرا ما: أول ما اتجه إليه «ثوار» ليبيا كان آبار النفط، وأول نصر لـ«داعش» قبل تشريد الناس وعرض كليبات الأعناق، كان احتلال مصافي النفط.
لماذا؟ من الواضح أنهم يريدون أن يبنوا بمداخيلها المستشفيات والمدارس والمصانع التي لم يبنها النظام العربي. ويريدون أن يرفعوا عليها أعلام العطاء والرحمة. ويريدون أن يعيدوا إلى البشر معاني التواضع التي غابت مع نزول آلهة الحكم على العرب من الكواكب العليا.
نصف قرن من النظام العربي لم يلغ الحدود وحدها، بل ألغى جوهر الداخل أيضا. الحوثيون يوقعون «الاتفاق» مع الحكومة كأنهم دولة خارجية. و«ثوار» ليبيا يفاوضون باسم مدنهم وواحاتهم. والأكراد يواجهون «داعش» باسم أحزابهم. والدول تغيب لتحل محلها الميليشيات. ولكن أيضا متى حضرت الدول، كدول، لكي نقول إنها تغيب؟