سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

وماذا عن الأمم المتحدة: عنوان لظاهرة لا تتكرر

عندما كان جميل البارودي يتجه إلى منبر مجلس الأمن، كان المندوب الأميركي يتوتَّر والمندوب الإسرائيلي يحتقن. فالرجل البسيط المظهر، ذو النظارتين الطبيتين البسيطتين، سوف يلقي خطابا طويلا ومريرا. ولن يتوقف عند شيء. يدخل من باب تاريخي ويخرج من آخر. يحلل حدث الصباح ويستنكر حدث المساء. ولا يجد مندوب إسرائيل ما يقوله سوى أن «مندوب السعودية الدائم، رجل معادٍ للصهيونية».
حمل البارودي القضايا العربية على كتفيه والقضية الفلسطينية في جفنيه. رفع هذا المسيحي اللبناني راية الإسلام، وظل يلوِّح بها حتى يومه الأخير. وعندما توفي مات حيث عاش طوال عهده كدبلوماسي في هيئة الأمم: غرفة بسيطة في أحد فنادق نيويورك الشديدة البساطة.
يضم مبنى الأمم المتحدة كافتيريا للموظفين ومطعما للسياسيين المندوبين. وكنت ألتقي جميل البارودي دائما حاملا صينية الطعام وباحثا عن مقعد في الكافتيريا. وكان يسألني دائما عن أخبار لبنان، عاتبا على سياسيّيه، خائفا عليه من الضياع تحت أقدامهم الزحّافة.
عندما تعرَّف وزير خارجية السعودية الأمير فيصل بن عبد العزيز إلى جميل البارودي، كان المهاجر يعمل أستاذا في الكيمياء. لكن الأمير رأى في معارفه الواسعة ونبضه العربي خير مندوب للمملكة في هيئة الأمم. بل رأى فيه أيضا رجلا أمينا ينتبه إلى شؤون ولديه، سعود وتركي، اللذّين يدرسان في برنستون، إحدى أرفع جامعات أميركا.
عاشت الصحافة الأميركية سنوات عدة على تغطية «قنابل» البارودي. ووصفته مجلة «تايم» بأنه صاروخ يطلق كيفما اتفق. وقال جورج بوش الأب، يوم كان مندوبا دائما لدى المنظمة الدولية، إن على المرء أن يحذر الوقوف في وجه البارودي. ومَن غير البارودي يقول لجون كنيدي: «لقد خرَّب والدك هذه البلاد عندما أغرقها بالويسكي المهرَّب».
عُرف البارودي بأطول الخطب وأطول من يمضيها مندوب دائم في المبنى الأزرق. فقد ظل عَلما من أعلامه من 1946 إلى 1978، حتى قالت الصحافة الأميركية إنه لولاه، لكانت المنظمة شعرت بالكثير من الملل.
عندما غاب البارودي قررت الرياض أن تعيِّن مكانه سفيرها في باريس الشيخ جميل الحجيلان، لكن الرئاسة الفرنسية تمنَّت أن تبقى العلاقات بين البلدين في عهدة الحجيلان. وبعدما كان كورت فالدهايم قد تلقّى أوراق اعتماد المندوب الجديد، تم إبلاغه بالتغيير. وظل اسم البارودي في المنظمة عنوانا لظاهرة أكثر مما هو اسم لفرد.
إلى اللقاء..