سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

وماذا عن الأمم المتحدة: هيبة أصحاب المقر

من يملك المال، يربح الحرب. وأحيانا السلام أيضا. لم تكن أميركا تستضيف مقر الأمم المتحدة فقط، بل كانت تموِّل الكثير من وجودها أيضا. غير أن السبعينات قلبت العصر الأميركي الذي بدأ نهاية الحرب الكونية. الدولار فقد نصف قيمته، والرئاسة فقدت نصف هيبتها مع فضيحة ريتشارد نيكسون وعزله. ونجحت شركة إعلانات تلفزيونية في أتلانتا، في إيصال جيمي كارتر بأكثرية ضئيلة، لكن ولايته اتَّسمت بالمزيد من الضعف. ومنعه من التجديد ممثل سابق يدعى رونالد ريغان، اكتسح الخريطة الانتخابية مرتين متتاليتين، وتُنسب إليه نهاية الحرب الباردة الأولى.
احتفظت أميركا بالقرار (مجلس الأمن) وأعطت العالم الثالث المنبر في الجمعية العامة. وراجت في تلك المرحلة ثلاثة تعابير تُردَّد في يوميات البشر: «العالم الثالث»، و«الشمال والجنوب» و«الشركات المتعددة القوميات». ثلاثة مصطلحات ابتكرها فرنسيون. الأول، استخدمه عام 1952 عالم السكانيات ألفرد سوفي. الثاني استخدمه الرئيس جيسكار ديستان عام 1974. الثالث استخدمه الصحافي جان جاك سرفان شرايبر (1967) في كتاب شهير عنوانه «التحدي الأميركي».
استُهلكت المصطلحات الثلاثة من كثرة الاستعمال. ولم ينتبه أحد إلى أن 11 دولة من دول الجنوب الفقير كانت تقع في الشمال الغني. اختلط الأمر على خط الاستواء. روى الوزير عبد الله المشنوق في مذكراته، أنه خلال الرحلة مع الرئيس كميل شمعون إلى البرازيل، حلَّقت الطائرة فوق خط الاستواء، فقال الطيار للمسافرين: «إننا نحلِّق الآن فوق خط الاستواء». فما كان من بعض الوزراء المرافقين إلا أن تطلعوا من النوافذ لكي يشاهدوا الخط. خط الاستواء.
وقفت الأمم المتحدة عاجزة عن مواجهة المشكلات والقضايا المستجدة والمتوالدة. مكان الحروب الدولية، نشأ رعب مجنون في أوروبا متمثلا بـ«الألوية الحمراء» وجماعة «بادر ماينهوف» الألمانية. وأخذت القارة كلها تبحث عن «كارلوس» الذي عثرت عليه فرنسا أخيرا في الخرطوم، وتم تخديره في أحد الملاهي التي يُكثر من التردُّد عليها. وظهرت في آفاق العالم كوارث جديدة من التلوث وفساد البيئة ومضار العصر الصناعي المتطور بلا حدود. مقابل ذلك، كان الإنسان يقفز عاليا في الفضاء وصناعة الأدوية ومحو بعض الأوبئة الناتجة عن التخلف.
وعلى الأرض بدأت ظواهر جديدة. تلك الدول المنسية التي تخرج من الفقر الخيالي إلى تقدم لا يصدَّق. أصبحنا نصغي هنا إلى خطب مهاتير محمد وكأنه زعيم دولة كبرى. هونغ كونغ لم تعد أسطورة الفقر والأفيون، بل نموذج الغنى. كوريا الجنوبية وسنغافورة كأنهما السحر الاقتصادي. تشيلي الصغيرة على حافة الأرض تتقدم معدلات النمو في الأميركتين معا. عندما انتُخب وزير خارجية كوريا السابق بان كي مون أمينا عاما للأمم المتحدة، كان يؤمل بأن ينقل إليها شيئا من النجاح الإداري في بلاده. لكن هذه ليست كوريا. هذه بابل الجديدة، التي لم تبق «دولة» في العالم لا تحمل بطاقة العضوية فيها، حتى التي لا تملك تكلفة إرسال مندوب إلى نيويورك.
إلى اللقاء..