خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

حلم لاح لعين الشاعر

كل ما نقوم به ينطلق من مجموعة غرائز مغروسة فينا. ولكن كل هذه الغرائز تنطلق بدورها من غريزتين؛ الأولى بقاء الفرد والثانية بقاء النوع. وكلاهما ينطلق من غريزة بقاء الأصلح. الغريزة الجنسية تنطلق منها، فعليها يتوقف بقاء النوع. وبقاء النوع يؤدي إلى تنازع البقاء. فالإنسان ينازع الحيوانات من أجل البقاء وعليه أن يثبت تفوقه عليها ليضمن بقاءه. ولكن البشر أنفسهم على كل واحد منهم أن يثبت أنه أكثر تفوقا من غيره. ويكون على الأنثى أن تختار من هو أكثر تفوقا لتضمن تحسّن النوع. ويكون عليه هو أيضا أن يختار من هي أكثر تفوقا من صويحباتها.
تكمن وراء هذه النزعة الغريزية كل ما فعله الإنسان في تاريخه، ولكن بشتى المقاييس المختلفة استجابة للظروف المختلفة ومرحلة التطور. يثبت الإنسان القديم في المرحلة البدائية الحيوانية تفوقه على غيره باستعراض قوته الجسمية في الانتصار على الحيوانات الأخرى أو على من سواه من البشر حوله. وبإثبات تفوقه هذا، يسيطر على من حوله ويترأس عليهم ويستحوذ لنفسه على أحسن الإناث تفوقا.
بتقدم البشرية وتمدنها، راح الإنسان يستعرض تفوقه بمميزات غير القوة العضلية، بل بمميزات قيادية أو سحرية أو فكرية أو تقانية. من يركب حصانا أرقى ممن يركض على رجله، ومن يصنع عربة أرقى ممن يركب حصانا. وهذا الارتقاء يعطيه تميزا، وهذا التميز يؤهله لاختيار أرقى الإناث وأقدرهن.
بتقدم المدنية، ظهرت قيم تجريدية تميز الرقي. الساحر بسحره، والشاعر بشعره، والحكيم بحكمته، والمفكر بفلسفته والفنان بفنه. كل هذه الأعمال الخالدة في دنيا العلم والفكر والفن تنطلق في جذورها من هذه الغريزة: إثبات تفوق الفرد وارتقاء النوع. وظهرت مقاييس لهذا التفوق والارتقاء، وهو ما نسميه بالنقد الفني وتقييم القيم. وفيها من التنازع ما لا يختلف في جوهره عن تنازع الإنسان البدائي مع الحمير أو الكلاب في الغاب. فكلها لإثبات ما هو أقوى وأبقى وأرقى.
أخيرا، أصبحت الثروة مقياسا للأحسن والأرقى. هذا ما يفسر تهالك المليونيرية والمليارديرية على كسب المزيد من الملايين والمليارات. من الواضح أنهم ليسوا بحاجة إليها، ولكنها وسيلة لبعضهم لإثبات أنهم أقدر وأرقى من غيرهم من المليارديرية. وما أطيب لنفوسهم وهم يرون كل هؤلاء الحسناوات والعارضات وملكات الجمال يجرين وراءهم!
وعندما نستعرض هذه المسيرة من إثبات الرقي بالقوة العضلية ثم الفكرية ثم المالية، أفلا يمكن الارتقاء لمرحلة جديدة يقاس فيها الارتقاء بعمل الخير للآخرين، بحيث تجري الحسان وملكات الجمال لا وراء من يكسب الملايين، بل وراء من يهبها للآخرين، للمرضى واليتامى وكل المحرومين، ومن ينجز الدواء للانتصار على السرطان والسكري والفقر والمجاعات؟
هناك من وصل هذه المرحلة من الرقي وقرأنا أخبارهم، ولكن أفلا يمكن تعميم هذا المقياس الجديد للارتقاء، بحيث يعتز الجميع بمن يعمل من أجل الجميع؟