يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

كيف نفهم اليمن غير السعيد؟!

لا يمكن القيام بدور فاعل دون فهم حقيقي لما يجري في اليمن؟ ما يطرح الآن هو إشعال فتيل الأزمة من خلال تدويرها بشكل طائفي كما يحاول دعاة الموت تثوير الحالة اليمنية والقذف بها إلى الحرب الأهلية الطويلة التي لن يسلم منها أحد ولا يمكن لطرف الانتصار دون طرف آخر.
قبل أي شيء يجب وضع نصب أعين الجميع أن اليمن مرّ بتحولات عميقة ما بعد الثورة، لكنها لم تسلط عليها الأضواء بسبب حالة «الإهمال» لليمن الذي تتحمل القوى السياسية جزءا من المشكلة لما أعطته من انطباع سيئ لدى المجتمع الدولي بلغ حد الابتزاز السياسي؛ حيث من السهل لأي طرف سياسي مؤثر في اليمن التحالف مع الجميع ضد الجميع ولأسباب تزيده تمكينا على الأرض.
اليمن، البلد الذي يقبع تحت 60 مليون قطعة سلاح، كأقل تقدير، لا يمكن التأثير فيه دون معرفة المكوّنات الفاعلة والصراع السلطوي بينها قبل الصراع على السلطة المرتكزة في صنعاء تحديدا، بحيث لا يمكن لأي طرف سياسي أن يقتطع حصّة من السلطة إلا بتهديد العاصمة التي باتت مسرحا لصراعات سياسية في غاية الخطورة والتذاكي والاستهتار بمقدرات البلد.
وللأمانة فإن معالجة المجتمع الدولي للأزمة اليمنية دون المستوى بسبب عدم فهم طبيعة هذه الجمهورية التي تنتقل من سلطة القبائل إلى سلطة الطوائف بسبب استهتار القوى السياسية الفاعلة.
لنلقِ نظرة سريعة ومكبّرة على الداخل اليمني بعيدا عن الفرز الطائفي الذي لا يفيد شيئا، بل سيساهم في الدفع إلى الحرب بوتيرة أسرع، فالأزمة ليست زيدية سنية بقدر ما إنها أزمة الإسلام السياسي بشقه السني/ الإصلاح، وشقه الشيعي/ أنصار الحوثيين، وكلاهما لا يمثلان لا الإسلام السني ولا الزيدي حصرا. هذان الطرفان ومعهما «القاعدة» وتجار السلاح وزعماء القبائل والأحزاب السياسية المترهلة والنظام السابق المتجذر في العمق اليمني، هم وقود الأزمة ومفتاح الحل الذي يجب أن يكون بإشراف المجتمع الدولي وقيادة خليجية تتعامل مع اليمن على أنه جزء من الجسد الخليجي رغم كل العقبات التي يعاني منها العقلاء في ترويض التهور والشره السياسي لدى المنتفعين من الأزمة وهم فئة قليلة مسيطرة ومستهترة تقامر بمستقبل اليمن وتدرك أن كل السيناريوهات لا يمكن أن تتجاوزها مهما كانت تشاؤمية أو إيجابية.
عودا للداخل اليمني هناك ست مكونات رئيسية تعيش حالة الصعود والهبوط في بورصة السياسة اليمنية الشائكة؛ المكون الأبرز هو «المؤتمر» برمزه علي عبد الله صالح الذي كان يلعب دور ضابط الإيقاع بين كل الأطراف المتنازعة، فهو يشارك الحوثيين انتماءهم القبلي والهويّاتي، لكنه متحالف وأقرب إلى خصومهم؛ الإصلاح والسلفيين، الذين يرون فيهم الشخص القوي القادر على كبح جماح التمدد الإيراني، ويحاول أتباعه العيش على هذا الإحساس والعودة به كزعيم يتدخل في اللحظة الأخيرة في محاولة لإعادة الانقلاب على الربيع العربي الأقرب للنجاح في الحالة اليمنية، لولا المكونات الأخرى التي لفظت صالح للأبد.
المكون الثاني القبائل وعلى رأسها حاشد التي تتنازعها وتتداخل فيها القومية اليمنية بالانتماء الزيدي بوجود بيت الأحمر الإصلاح، وهو ما يجعلها دائما تنتظر ذروة الأزمات لتتدخل، وهو ما يفسر هذا الصمت البارد لأنهم يعتبرون الحرب ليست حربهم كما هو الحال لدى الطبقة الحاكمة برئاسة عبد ربه منصور هادي القادم بسيقان ديمقراطية طويلة لكنها زائفة لا يمكن أن تخطو للأمام خطوة دون مراعاة باقي المكونات وأهمها الإصلاح وأنصار الحوثيين الذين يريدون الانفراد باليمن على طريقة الإسلام السياسي السني الشيعي، إلا أنه كما هو الحال في استنساخ تجربة «حزب الله» يتكئ الحزب على تجربة تكنيك الدولة داخل الدولة، بينما يتكئ الإسلام السياسي ممثلا في الإخوان بنماذجهم الكثيرة، ومنها الإصلاح، النموذج الأقرب للمحلية من كل نسخ الإخوان الأخرى، على تكنيك المشروع الانقلابي ومنازعة السلطة مباشرة.
40 في المائة من اليمنيين ينتمون للزيدية، لكن جزءا كبيرا من الطائفة الممتدة خارج حدود اليمن ضد انسلاخ الحوثي من الهوية العقائدية إلى استنساخ الإسلام السياسي الشيعي وتجربة «حزب الله» مع وجود فوارق ضخمة بين الحالة اليمنية واللبنانية يطول شرحها، إلا أن الحوثي يستغل التجييش الطائفي خاصة من دعاة الموت والمتعاطفين مع الإرهاب ليحاول تصوير الطائفة على أنها مستهدفة ولتثويرها عبر شعارات دينية ومكاسب على الأرض أبرزها المطالبة باكتمال مشروع الدولة المستقلة والإصرار على الميناء والمناهج وإتاحة المعاهد الدينية والعلاقات مع إيران، بينما تستغل باقي الأطراف ومنها ميليشيات سنية مستقلة عن الدولة وعن المؤتمر وعن الإصلاح يقودها شخصيات ساهمت في الفرز الطائفي وأهمها الفرقة المدرعة العاشرة بقيادة علي محسن القريب من «القاعدة» الذي يعزى له ولها مساهمات كبرى في حرب الانفصال والحروب الست مع الحوثيين، لكن الظروف الآن اختلفت بحكم وجود قوى سياسية أخرى وعلى رأسها الرئيس السابق تحاول اللعب بالكارت الحوثي بعد أن كانت صمام أمان دون امتداده.
السيناريوهات المقبلة في اليمن هي بيد النخب السياسية المقامرة، فهي التي تملك إنجاح مشروع الحوثي الذي يتجاوز القفز على كرسي الرئاسة إلى ما هو أعظم وهو البقاء كقوة فاعلة تملك مقومات الدولة وتحمي الطائفة وتقارع الدولة وتبتزها، وهو ما يعني البقاء في مربع المكتسبات دون الارتهان بلعب إدارة دولة على تخوم الانهيار كاليمن.
الرئيس هادي رغم دعم المجتمع الدولي والإقليمي الذي لا تكترث به القوى السياسية المسيطرة على الأرض لن يفلح في تجاوز حالة الفرز هذه بقدر ما سيلعب على توزيع الكعكة ربما على الطريقة العراقية وتمريرها على أنها مخرجات حوار وطني، بينما سيكون معنى هذا السيناريو للمحاصصة الطائفية أن الخليج خسر اليمن بنسبة كبيرة وحتى التذرع ببراغماتية التركيز على الجنوب الذي يبدو مشجعا على الاستثمار فيه ليس واقعيا، من جهة صعوبة السيطرة على الأزمات، إضافة إلى أن الحالة الجنوبية لا تقل تعقيدا ولا ابتزازا عن الشمال، فاليمن تحول لدى النخبة السياسية إلى سلعة من الأزمات القابلة للتصدير.
هذا الزحف الخافت والتمدد الناعم للإسلام السياسي الشيعي تقابله رغبة انقلابية صارخة من جماعات الإسلام السياسي التي تتجه لمربع العنف وتفضل تثوير الأوضاع ولو عسكريا، ولا يمكن للعالم مجتمعا التغلب على ذلك دون إعادة التأكيد على يمن واحد بمكونات سياسية متعددة تأخذ حظها في التمثيل والتأثير في إطار المصلحة الوطنية، وهو ما يحتاج إلى عمل مضنٍ وإعادة إنتاج لنخبة سياسية جديدة لا تشير كل المؤشرات - للأسف – إلى أننا في الطريق إلى ذلك اليمن السعيد.

[email protected]